## مراجعة لرواية "ثلاث جنازات" للكاتب محمد يوسف الغرباوي: رحلة إلى ما وراء الحجب
تُعد رواية "ثلاث جنازات"، الصادرة
حديثًا عن دار المحرر للكاتب محمد يوسف الغرباوي، إضافة مميزة للمكتبة العربية، إذ
تغوص في عوالم غامضة ومثيرة للتساؤل، متخذة من فكرة الموت وماهيّة الروح نقطة انطلاق لرحلة سردية فريدة. يقتحم الغرباوي، المعروف بجرأته في تناول الموضوعات
الشائكة كما في عمله السابق "ما حدث في بيت الكفراوي"، هذه المرة منطقة
البرزخ، ليقدم لنا عملاً يمزج بين الواقعية المؤلمة والفانتازيا التأملية.
![]() |
## مراجعة لرواية "ثلاث جنازات" للكاتب محمد يوسف الغرباوي: رحلة إلى ما وراء الحجب |
**عتبة الموت لقاء الأرواح الحائرة**
تستهل الرواية أحداثها بمشهد جنائزي مهيب في مسجد السيدة نفيسة، حيث تجد ثلاث أرواح نفسها شاهدة على مراسم دفن أجسادها.
هذاالموقف الصادم، الذي يضع القارئ مباشرة أمام سؤال وجودي عميق – "هل تخيلت يومًا أن تحضر جنازتك؟" – هو المفتاح الذي يفتح أبواب الحكايات. لدينا شاب في أواخر العشرينيات، ورجلان في منتصف الخمسينيات.
- تقف أرواحهم، التي وصفت بأنها مجرد رؤوس تطل من جلابيب بيضاء دون أثر لجسد، في حيرة
- ودهشة أمام مصيرهم الجديد. يبادر الأكبر سنًا بكسر الصمت، مطمئنًا الشاب بأن هذا الشعور طبيعي
- وأن من سبقوهم قد مروا بالتجربة ذاتها. هذا الحوار الأولي، الذي يتم بأسلوب التخاطر، يؤسس
- لطبيعة التواصل
في هذا العالم الوسيط.
**بنية سردية مبتكرة ثلاث حكايات، مصير واحد**
تتخذ الرواية من هذا اللقاء الغرائبي بنية سردية ذكية. فبدلاً من التركيز على الراوي الذاتي وحده، يصبح المشهد الجنائزي نفسه هو البطل الحقيقي والمحرك للأحداث.
تتفق الأرواح الثلاث على أن يروي كل منهم قصة
حياته، وكيف آلت به الأمور إلى هذا المصير، وذلك لتمضية الوقت حتى انتهاء مراسم
الدفن والانتقال إلى عالم البرزخ. هنا، تتحول الرواية إلى ثلاث قصص متداخلة، كل
قصة بمثابة فصل مستقل، تكشف عن حياة مختلفة تمامًا، لكنها تجتمع في النهاية تحت
مظلة الموت الحتمي.
- القصة الأولى، التي يرويها الشاب، تكشف عن مأساة شاب ساذج فقير، دفعته ظروفه القاهرة للتورط
- في جريمة لم يكن ليتخيل عواقبها، لتنتهي حياته بشكل مأساوي. تعكس هذه القصة واقعًا اجتماعيًا
- مريرًا، حيث يمكن
للبراءة أن تسحق تحت وطأة الفقر والجهل.
- القصة الثانية تأخذنا إلى عالم مختلف، حيث يجد طبيب نفسي نفسه، عن طريق صديق طفولته
- متورطًا في عوالم الميتافيزيقا الغامضة. رحلة مليئة بالرعب والدم والأمراض النفسية المعقدة
- تستكشف الحدود الفاصلة بين العلم والخرافة، وتأثير القوى الخفية على النفس البشرية، وكيف يمكن
- للفضول أن يقود إلى
الهلاك.
- أما القصة الثالثة، فيرويها أحد الرجلين الخمسينيين، وهو الراوي الذاتي للإطار العام للرواية، رجل
- أعمال ناجح. حكايته تدور في فلك الانتقام ولذته، ومتعة الخيانة، والتحولات السلوكية الغريبة التي
- طرأت عليه، مما يطرح تساؤلات حول الطبيعة البشرية وتقلباتها، وكيف يمكن للنجاح المادي أن
- يخفي فراغًا روحيًا أو صراعات داخلية مدمرة.
**لغة وأسلوب بين الفصحى والعامية، والواقعية والفانتازيا**
يبرع الغرباوي في توظيف اللغة لخدمة السياق الدرامي. فبينما يسود الحوار بين الشخصيات (الأرواح) بالعامية المصرية،
مما يضفي
عليه طابعًا من الواقعية والحميمية، يأتي السرد العام للأحداث والحوار الداخلي لكل
شخصية باللغة العربية الفصحى. هذا التنوع اللغوي، وإن كان قد يبدو متناقضًا للوهلة
الأولى، إلا أنه يساهم في إضفاء انسيابية على الأسلوب ويجعله أقرب إلى تجربة
القارئ، خاصة في تصوير المشاعر والأفكار الداخلية المعقدة.
**أبعاد فلسفية وجمالية**
تتجاوز "ثلاث جنازات" كونها مجرد رواية عن الأشباح أو فانتازيا رعب سطحية. إنها تطرح أسئلة فلسفية عميقة حول معنى الحياة والموت، العدالة، الاختيار، والمسؤولية. كل قصة هي بمثابة لغز يحتاج إلى تفسير، وكل موت هو نتيجة لسلسلة من القرارات والظروف.
- الكاتب يمعن في إدماج القارئ في الأجواء
- ليس فقط من خلال وصف المشاعر والأحداث
- بل أيضًا من خلال تصوير تجربة
الأرواح وهيئتها غير المادية.
** العودة إلى نقطة البدء**
يختتم الكاتب الرواية بالعودة إلى المشهد
الجنائزي الأول. بعد أن فرغت الأرواح من سرد حكاياتها، وبعد أن سبقت الروحان
الأخريان إلى مثواهما، يعود السرد إلى الراوي الذاتي (رجل الأعمال). يصف بأسلوب
مؤثر رحلة انتقاله هو الآخر من الحياة الدنيا إلى عالم البرزخ، ليغلق الدائرة
السردية التي بدأت بمشهد الموت الجماعي.
الختام
في المجمل، تقدم "ثلاث جنازات" تجربة قرائية غنية ومثيرة للتفكير. إنها رواية تتسم بالأصالة في فكرتها، والعمق في معالجتها، والتشويق في أحداثها.
نجح محمد يوسف الغرباوي في أن ينسج من خيوط الموت
حكايات عن الحياة، ومن عالم الغيب تأملات في عالم الشهادة، ليترك القارئ مع أسئلة
أكثر من الإجابات، وهو ديدن الأدب الرفيع الذي يحفز العقل والروح. إنها دعوة
للتأمل في مسارات حياتنا، وفي تلك اللحظة الحتمية التي سنواجه فيها جميعًا
جنازاتنا الخاصة.