### **الأنماط الثقافية للعنف: كيف حوّلت الأيديولوجيا الإنسان إلى وحش مُشرعَن؟**
في مفارقة صارخة تهزّ أسس الحضارة الإنسانية،
نجد أنفسنا نعيش في عصرٍ بلغ فيه التقدم التكنولوجي والعلمي ذُراه، بينما تغرق
مجتمعاتنا في مستنقعات من العنف الوحشي الذي يستعصي على الفهم. من مجازر غزة التي
حوّلت القطاع إلى مختبر مفتوح لآلات القتل، إلى أهوال سجون مثل صيدنايا التي كشفت
عن قدرة النظام على تجاوز حدود الخيال في التعذيب، يطرح الواقع سؤالاً ملحّاً
ومؤلماً: ما هي الجذور العميقة التي تصنع القتلة وتُشرعن المذابح؟ هل العنف مجرد
نزوع فردي مرضي، أم هو نتاج منظومة ثقافية وفكرية معقدة تجعل من الإنسان أداة طيعة
في يد الأيديولوجيا؟
![]() |
### **الأنماط الثقافية للعنف: كيف حوّلت الأيديولوجيا الإنسان إلى وحش مُشرعَن؟** |
- إن الإجابة تتجاوز التشخيصات النفسية والسوسيولوجية المباشرة، لتغوص في أعماق البنية الثقافية
- التي تشكل وعينا وقيمنا. وفي هذا السياق، يقدم كتاب "الأنماط الثقافية للعنف" للباحثة باربرا ويتمر
- أستاذة علم الأخلاق والدراسات الثقافية، إطاراً تحليلياً ثرياً لتفكيك هذه الظاهرة. فالكتاب يجادل بأن
- العنف ليس مجرد استجابة فطرية، بل هو سلوك مكتسب، يتم ترويضه والمصادقة عليه ثقافياً عبر
- قرون من الموروثات والتمثيلات الرمزية والتشريعات
الدينية والسياسية.
#### **جدلية الفطرة والاكتساب هل الإنسان عنيف بطبعه؟**
لطالما ساد نقاش فلسفي وعلمي حول ما إذا كان
العنف متأصلاً في الطبيعة البشرية. يميل البعض، كما في كتاب "العنف والدماغ"
لفيرنون مارك وفرانك إيرفين، إلى تبني رؤية عضوية، حيث يُعزى السلوك العنيف إلى
اختلال وظيفي في الدماغ. وفقاً لهذا المنظور، فإن العنف هو نتيجة حتمية لـ "دماغ
مشدود" أو تركيبة بيولوجية معينة، مما يرفع المسؤولية عن البنى الاجتماعية
والثقافية.
- لكن باربرا ويتمر، ومن خلال منظور الدراسات الثقافية، تقدم رؤية مغايرة وأكثر عمقاً. هي ترى أن
- هذا التفسير البيولوجي هو بحد ذاته جزء من فرضية ثقافية غربية تهدف إلى تطبيع العنف وجعله أمراً
- حتمياً لا مفر منه.
في المقابل، تؤكد ويتمر أن العنف هو "استجابة سلوكية مكتسبة"، يتم
تعزيزها وتمريرها عبر الأجيال من خلال المحاكاة الرمزية والتجربة والخطابات
الثقافية السائدة. بمعنى آخر، نحن لا نولد قتلة، بل نتعلم كيف نصبح كذلك من خلال
القصص التي نرويها، والأبطال الذين نمجدهم، والأعداء الذين نصنعهم.
#### **الأيديولوجيا المحرك الأعظم لآلة العنف**
إذا كان العنف سلوكاً مكتسباً، فما هي الآلية
التي تجعله مقبولاً، بل ومستحسناً في بعض الأحيان؟ هنا يكمن الدور المحوري
للأيديولوجيا. تشير الباحثة أليس ميللر، التي تستشهد بها ويتمر، إلى فارق جوهري
بين "الكراهية" كعاطفة إنسانية فردية، و"الكراهية المؤدلجة". فالشعور
بالكره قد يكون طبيعياً ولا يقتل أحداً في حد ذاته، لكن الكراهية التي يتم وضعها
تحت مظلة أيديولوجية (دينية، قومية، عرقية) تتحول إلى أداة تشريع للقتل.
- تعمل الأيديولوجيا كجسر يردم الهوة بين الإيمان الشخصي وممارسة السلطة العنيفة. إنها توفر الإطار
- "الأخلاقي" الذي يبرر العدوان ويمنحه شرعية. ولتحقيق ذلك، لا بد من وجود "عدو". فالقديس لا
- تكتمل قداسته دون شيطان يحاربه، والبطل لا معنى لبطولته دون وحش يصرعه.
وهكذا، يتحول
العدوان من فعل همجي إلى "حسنة" أو "واجب مقدس"، لأنه يؤمن
الفرصة للفرد أو الجماعة للارتقة فوق الحالة الإنسانية العادية وتحقيق الذات من
خلال الصراع، وهو ما أشار إليه هيغل فلسفياً حين ربط تحقيق الروح بصراع حياة أو
موت مع الآخر.
هذه الديناميكية تخلق نموذجين متكاملين: البطل الفاعل الذي يمارس العنف، والبطل المنفعل (الشهيد) الذي يقع عليه العنف. كلاهما يجد العظمة في خضم المعركة، أحدهما عبر إلحاق الهزيمة بالعدو، والآخر عبر الخضوع المبرر أخلاقياً للمعاناة. وبهذا، تصبح الحرب مسرحاً لتحقيق أسمى الغايات الأيديولوجية.
#### **التحليل النفسي واللغوي تفكيك البنية الداخلية والخارجية للعنف**
ينتقل التحليل إلى مستويات أعمق لفهم كيفية
استبطان العنف. من منظور التحليل النفسي الفرويدي، تنشأ الحضارة من خلال كبح جماعي
لـ "غريزة العدوان". ولكي يعيش البشر في مجتمع تحكمه القوانين، يتوجب
على كل فرد أن يضحي بجزء من غرائزه. لكن هذا الكبت لا يلغي الغريزة، بل يحولها. فإما
أن ترتد على الذات على شكل "أنا أعلى" صارم وعدواني يعاقب الفرد على
أفكاره، أو يتم توجيهها نحو الخارج بطرق مقبولة ثقافياً، وأبرزها الحرب ضد "العدو"
المشرعن.
- وعلى مستوى التنشئة، فإن الأفراد الذين يعانون الإهمال والإساءة في طفولتهم، ويفشلون في تكوين
- علاقات آمنة ومبنية على الثقة، قد يطورون سلوكيات عنيفة في محاولات يائسة لتلبية حاجاتهم
- الأساسية للبقاء والشعور بالأمان. وعندما يفشل المجتمع على نطاق واسع في تأمين هذه الحاجات
- لأبنائه، فإنه
يخلق جيلاً من الأفراد المستعدين للانخراط في العنف كوسيلة للتحكم وتعويض النقص.
لغوياً، يدعم مفكرون مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا
فكرة أن "الحرب هي أصل نشوء الكلام". لكن الأخطر هو ما تشير إليه
الباحثة دينيس أكيرمان بـ"قحط لغة الإيمان"، حيث جُرّدت اللغة المعاصرة
من القداسة والتعاطف، وأصبحت لغة تقنية، وذات بعد واحد. لقد أصبحت لغة تتحدث عن "أهداف
مشروعة" و"أضرار جانبية" بدلاً من أطفال ونساء ورجال. هذه اللغة
المفرغة من الروح تسهل عملية التجريد من الإنسانية، وهي خطوة ضرورية قبل ارتكاب
العنف.
#### **نحو استعادة الإنسانية لغة جديدة ومفهوم جديد للقوة**
إن مواجهة هذه الأنماط الثقافية للعنف لا تكون
فقط عبر القوانين أو المعاهدات، بل تتطلب ثورة ثقافية تبدأ من إعادة إغناء لغتنا
وحياتنا العاطفية. يتطلب الأمر الاعتراف بأن العواطف والإيمان والضعف ليست سمات
سلبية يجب قمعها، بل هي جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية. إن اعتبار الضعف
الإنساني المشترك قوة، وليس نقصاً، يمكن أن يكسر ديناميكية المعتدي/الضحية.
- عندما يعتاد المجتمع، وبخاصة الرجال الذين طالما احتكروا دور القوة، على الوعي بمشاعر الآخرين
- (النساء والأطفال) والشعور بالمسؤولية تجاههم بطريقة غير تدميرية، يمكن أن تبدأ ديناميكية الهيمنة
- في التغير. إن القبول الصادق بالحياة العاطفية المهمشة ودمجها مع الحياة العقلية البطولية التي تمجدها
- ثقافتنا، قد يخلق إنساناً أكثر توازناً وتكاملاً.
الختام
في النهاية، نعود إلى النقطة التي بدأنا منها. إن البشر ليسوا رهائن لبيولوجيتهم، بل هم رهائن للقصص التي يروونها لأنفسهم، وللأيديولوجيات التي تمنحهم الإذن بالقتل. وكما لخصت الباحثة فيث بوبكورن هذا الواقع المرير في فرضيتها الصادمة، "لأول مرة في تاريخ البشرية، تصبح البرية أكثر أماناً من المدنية".
إنها شهادة دامغة على أن الوحش الحقيقي ليس كامناً
في غابات الطبيعة، بل في الأنظمة الثقافية والفكرية التي صنعناها بأيدينا، والتي
حوّلت الحضارة إلى مسرح للهمجية المنظمة.