**"سؤال الحيرة واليقين": تشريح فكري لدراما الإنسان المعاصر في مواجهة الكون والتكنولوجيا**
في خضم عالم متسارع التعقيد، حيث تتلاطم أمواج
الأسئلة الوجودية الكبرى مع منجزات تكنولوجية تكاد تفوق حدود الخيال البشري، يبرز
كتاب «سؤال الحيرة واليقين.. دراما الكون» للدكتور محمد حسين أبوالعلا، أستاذ علم
الاجتماع السياسي المرموق، كإسهام فكري لافت وضروري. يقدم هذا المؤلف، الصادر
حديثًا عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة، خريطة تحليلية معمقة للصراع المحتدم
الذي يعيشه الإنسان المعاصر، محاصرًا بين قوتين هائلتين: "المارد الكوني"
بأسراره الغامضة وتحدياته الوجودية، و"المارد التكنولوجي" بسلطته
المتنامية التي تهدد بابتلاع الهوية الإنسانية وتغييب جوهرها.
![]() |
**"سؤال الحيرة واليقين": تشريح فكري لدراما الإنسان المعاصر في مواجهة الكون والتكنولوجيا** |
جوهر الكتاب
يرتكز الكتاب في جوهره على هذه الثنائية المحورية، حيث يمثل "المارد الكوني" تلك القوى الغامضة والأسرار العميقة للوجود والخليقة التي تحيط بنا، وتستفز فينا تساؤلات أزلية حول النشأة والمصير والغاية.
إنه يجسد المجهول المهيب الذي دفع البشرية منذ فجر وعيها إلى التأمل والبحث عن المعنى. في المقابل، يقف "المارد التكنولوجي"، الذي يشير إلى التسارع المذهل في التطور التقني، وبخاصة في مجالات الرقمنة والذكاء الاصطناعي، وتأثيراته العميقة والجذرية على أنماط حياتنا، ووعينا بذواتنا، وعلاقاتنا بالعالم.
- يرى الدكتور أبوالعلا أن هذه الثنائية لا تشكل مجرد تحدٍ عابر
- بل هي تحدٍ وجودي يفرض على الإنسان المعاصر
- إعادة تقييم شاملة لعلاقته بالكون وبالتكنولوجيا التي
أبدعها.
الرحلة الفكرية
ينطلق المؤلف في رحلته الفكرية من "قصة الغموض الأبدي"، حيث يغوص في أعماق ما يسميه "المارد الكوني".
هنا،يستحضر التوتر الدائم بين الرغبة البشرية الفطرية في الفهم والإدراك، وبين الحدود التي تفرضها طبيعة الكون وقدرات العقل البشري على هذا الفهم. وفي هذا السياق، يُعيد أبوالعلا تعريف "الحيرة" ليس بوصفها ضعفًا أو قصورًا معرفيًا، بل كقوة دافعة محتملة، ومحفزًا لإعادة اكتشاف الذات الإنسانية في مواجهة جلال الكون وغموضه.
- إنها الحيرة التي، إذا ما أُحسِن توجيهها
- قد تقود إلى مستويات أعمق من الوعي
والتأمل.
قصة تغييب البشر
ثم ينتقل الكتاب برشاقة تحليلية إلى "قصة تغييب البشر"، لينقلنا إلى الجبهة الأخرى من هذا الصراع الوجودي: عالم التكنولوجيا الرقمية الذي يتحول باطراد من أداة طيعة في يد الإنسان إلى منافس وجودي يفرض منطقه الخاص.
يحذر أبوالعلا بتبصر من أن "الأشباح الرقمية" – وهو مصطلح دقيق يصف به الكيانات الرقمية والخوارزميات التي باتت تتحكم في جزء كبير من حياتنا – لم تعد مجرد أدوات مساعدة، بل أصبحت فاعلاً رئيسيًا في تشكيل الوعي الإنساني، وفي إعادة صياغة الإدراك والقيم. يرى أن هذا المسار يقود إلى "تغييب" متدرج للإنسان عن جوهره، وعن إنسانيته المتفردة.
- يتجاوز المؤلف هنا النظرة السطحية للتكنولوجيا كمجرد خطر مادي، ليركز على تأثيرها البنيوي في
- تشويه المفاهيم الأساسية كالزمن (الذي يتسارع ويتجزأ)، والفضاء (الذي يتقلص ويصبح افتراضيًا)
- والهوية (التي تتشظى وتصبح سائلة). تصبح العلاقة بين الإنسان والآلة أشبه بـ"رقصة وجودية" غير
- متكافئة، يتضاءل فيها الدور البشري تدريجيًا لصالح الكيانات الاصطناعية.
يطرح الكتاب
يطرح الكتاب تساؤلاً جوهريًا ومقلقًا: هل يمكن للحيرة، التي كانت تاريخيًا محركًا للإبداع والتساؤل الفلسفي والعلمي، أن تتحول في العصر الرقمي إلى سجن معرفي؟
يشير أبوالعلا بذكاء إلى أن التراكم الكمي الهائل
للمعرفة والمعلومات في العصر الرقمي لم يُترجم بالضرورة إلى فهم أعمق للوجود أو
إجابات شافية للأسئلة الكبرى. بل، على العكس، قد أدى هذا الطوفان المعلوماتي إلى
تشتيت العقل البشري، وإغراقه في تفاصيل لا نهائية تفتقر غالبًا إلى السياق الوجودي
والمعنى الكلي، مما قد يعزز حالة من الحيرة المشوشة بدلاً من الحيرة المنتجة.
- وفي سياق متصل، يقدم أبوالعلا في كتابه تفكيكًا عميقًا لمفهوم "اليقين". فاليقين هنا ليس حالة نهائية
- مستقرة يتم بلوغها، بل هو عملية ديناميكية مستمرة من المواجهة الخلاقة مع المجهول، وسعي دؤوب
- نحو بناء المعنى. ويجادل الكاتب بأن التكنولوجيا الحديثة، التي كان يُؤمَّل منها أن تكون جسرًا نحو مزيد من اليقين من خلال توفير البيانات والمعرفة.
قد أصبحت،paradoxically، تُنتِج شكلاً جديدًا من الشك: شك في مصداقية
المعلومات المتدفقة بلا حسيب، وشك في حدود القدرة البشرية على التحكم في الأدوات
التي أفرزتها، بل وشك حتى في طبيعة الواقع نفسه الذي يتداخل فيه الحقيقي
بالافتراضي. هذا الشك المعاصر، كما يرى المؤلف، لم يعد فرديًا أو اختياريًا، بل
أصبح سمة جماعية شبه مفروضة بفعل هيمنة الفضاء الرقمي وطوفان معلوماته المتضاربة
أحيانًا.
- ويختتم الكتاب فصوله بـ"قصة الهزيمة المنتظرة"، ليقدم من خلالها رؤية استشرافية تحمل تحذيرات
- جدية حول المسارات المستقبلية المحتملة لهذا الصراع. لا يقدم الكتاب حلولاً جاهزة بقدر ما يسعى
- إلى
إثارة الوعي النقدي وتشجيع التفكير العميق حول مآلات الإنسان في هذا العصر المفصلي.
الختام
إن «سؤال الحيرة واليقين» ليس مجرد كتاب، بل هو
دعوة ملحة للتأمل وإعادة النظر في علاقتنا بالكون، وبالتكنولوجيا، وبذواتنا. إنه
محاولة جادة لتقديم تشريح دقيق لواقع إنساني غارق في التناقضات، ومحاولة لاستشراف
المستقبل برؤية نقدية لا تخلو من قلق مشروع، مما يجعله إضافة قيمة للمكتبة العربية
ولمعترك الأفكار الراهن.