recent
أخبار ساخنة

### **"المريضة الصامتة": تشريح الصمت في تحفة الإثارة النفسية الحديثة**

الصفحة الرئيسية

 

### **"المريضة الصامتة": تشريح الصمت في تحفة الإثارة النفسية الحديثة**

 

في عالم روايات الإثارة النفسية الذي يتسم بالوفرة والتشابه أحيانًا، تبرز أعمال قليلة لتترك بصمة لا تُمحى في ذاكرة القارئ. رواية "المريضة الصامتة" (The Silent Patient) للكاتب البريطاني القبرصي ألكس ميكايليديس، والتي صدرت عام 2019، هي بلا شك واحدة من هذه الأعمال. لم تكن مجرد رواية حققت نجاحًا تجاريًا كاسحًا وتصدرت قوائم الأكثر مبيعًا حول العالم، بل أصبحت ظاهرة ثقافية ونقطة مرجعية في هذا النوع الأدبي، وذلك بفضل حبكتها المتقنة، وبنائها النفسي العميق، ونهايتها الصادمة التي أصبحت تُضرب بها الأمثال.

في عالم روايات الإثارة النفسية الذي يتسم بالوفرة والتشابه أحيانًا، تبرز أعمال قليلة لتترك بصمة لا تُمحى في ذاكرة القارئ. رواية "المريضة الصامتة" (The Silent Patient) للكاتب البريطاني القبرصي ألكس ميكايليديس، والتي صدرت عام 2019، هي بلا شك واحدة من هذه الأعمال. لم تكن مجرد رواية حققت نجاحًا تجاريًا كاسحًا وتصدرت قوائم الأكثر مبيعًا حول العالم، بل أصبحت ظاهرة ثقافية ونقطة مرجعية في هذا النوع الأدبي، وذلك بفضل حبكتها المتقنة، وبنائها النفسي العميق، ونهايتها الصادمة التي أصبحت تُضرب بها الأمثال.
### **"المريضة الصامتة": تشريح الصمت في تحفة الإثارة النفسية الحديثة**


### **"المريضة الصامتة": تشريح الصمت في تحفة الإثارة النفسية الحديثة**


  • هذا المقال ليس مجرد ملخص للرواية
  •  بل هو محاولة لتشريح العناصر التي جعلت من "المريضة الصامتة"
  •  عملًا استثنائيًا، والغوص في طبقاتها المتعددة التي تتجاوز مجرد لغز جريمة قتل.

#### **الفرضية المركزية صمت يصرخ بالحقيقة**

 

تبدأ الرواية بفرضية بسيطة ومثيرة للفضول في آن واحد. أليسيا بيرنسون، رسامة مشهورة وموهوبة، تعيش حياة تبدو مثالية مع زوجها غابرييل، مصور الأزياء الناجح. تنقلب هذه الصورة المثالية رأسًا على عقب عندما يُعثر على غابرييل مقتولًا، مقيدًا على كرسي ومصابًا بعدة طلقات نارية في وجهه.

  •  الشخص الوحيد الموجود في مسرح الجريمة هي أليسيا، التي تقف هناك وبيدها السلاح. منذ تلك
  •  اللحظة، تتوقف أليسيا عن الكلام تمامًا. صمتها المطبق يصبح هو لغز الرواية الأكبر، حتى أكبر من
  •  دافع الجريمة نفسها.

 

تُدان أليسيا وتُرسل إلى "ذا غروف"، وهي وحدة طب شرعي آمنة في شمال لندن. وهنا يدخل بطلنا الثاني، ثيو فابر، معالج نفسي طموح ومضطرب بدوره. يصبح ثيو مهووسًا بقضية أليسيا، ويرى في علاجها فرصة لإثبات جدارته المهنية وتحقيق إنجاز لم يسبقه إليه أحد. يترك وظيفته المستقرة وينتقل للعمل في "ذا غروف" بهدف واحد: جعل أليسيا تتكلم.

 

#### **بنية سردية مزدوجة لعبة المرايا والزمن**

 

يكمن جزء كبير من عبقرية ميكايليديس في البنية السردية التي اختارها. تتناوب الرواية بين خطين زمنيين ومنظورين مختلفين:

 

1.  **منظور ثيو فابر (الحاضر):** يُروى هذا الجزء بضمير المتكلم من خلال عيون ثيو. نرى جهوده الحثيثة لاختراق جدار صمت أليسيا، ومقابلاته مع زملائها وأقاربها، وتعمقه في ماضيها المأساوي. لكن الأهم من ذلك، أننا نرى العالم من خلال عدسته المشوهة. ثيو ليس مجرد معالج موضوعي؛ إنه شخصية معقدة تحمل صدماتها الخاصة، وعلاقته الزوجية المضطربة تلقي بظلالها على عمله وتفكيره. هذا يجعله "راويًا غير موثوق به" بامتياز، حيث يبدأ القارئ تدريجيًا في التشكيك في دوافعه وتفسيراته للأحداث.

 

2.  **مذكرات أليسيا بيرنسون (الماضي):** قبل وقوع الجريمة، كانت أليسيا تحتفظ بيوميات بتشجيع من زوجها غابرييل. هذه المذكرات تقدم لنا لمحات عن حياتها قبل المأساة، وعلاقتها بزوجها، ومخاوفها، وضغوط عالم الفن. إنها الصوت الوحيد الذي نمتلكه لأليسيا، نافذة مباشرة على روحها قبل أن يبتلعها الصمت.

 

هذه الازدواجية السردية تخلق حالة من التوتر المستمر. القارئ يتنقل بين محاولات ثيو اليائسة في الحاضر وذكريات أليسيا المقلقة في الماضي، محاولًا تجميع قطع الأحجية وربط الخيوط بين العالمين.

 

#### **الشخصيات كدراسات نفسية عميقة**

 

"المريضة الصامتة" ليست مجرد رواية حبكة، بل هي دراسة شخصيات من الطراز الرفيع.

 

*   **أليسيا بيرنسون:** هي المحور الغامض للرواية. صمتها يحولها إلى شاشة بيضاء يسقط عليها الجميع (ثيو، الأطباء الآخرون، وحتى القارئ) تخيلاتهم وتحليلاتهم. قبل الصمت، كانت فنانة تستخدم الأسطورة اليونانية كإطار لفهم العالم. لوحتها الأخيرة، التي تحمل اسم "ألكيستيس"، تصبح مفتاحًا رمزيًا لفهم قصتها. في الأسطورة اليونانية، تموت ألكيستيس بدلًا من زوجها، ثم تُعاد إلى الحياة لكنها تظل صامتة. هذا التوازي ليس صدفة، بل هو جوهر التحليل النفسي الذي يقود الرواية.

 

*   **ثيو فابر:** هو البطل الحقيقي والشرير المحتمل في نفس الوقت. يكشف ميكايليديس ببطء عن ماضي ثيو المؤلم مع أب مسيء، مما يفسر "عقدة المنقذ" لديه ورغبته الملحة في "إصلاح" الآخرين. ومع ذلك، فإن هوسه بأليسيا يتجاوز الحدود المهنية، وتكشف رحلته عن جانب مظلم وأناني في شخصيته يجعله لا يقل غموضًا عن مريضته.

 

#### **المواضيع العميقة ما وراء الجريمة**

 

تحت ستار قصة الجريمة والتشويق، تستكشف الرواية مواضيع إنسانية عميقة:

 

*   **الصدمة وأثرها الممتد:** الرواية هي في الأساس استكشاف لكيفية تشكيل صدمات الطفولة لحياة البالغين. كل من أليسيا وثيو هما نتاج ماضٍ مؤلم، وقراراتهما وسلوكياتهما الحالية هي صدى لتلك الجروح القديمة التي لم تلتئم.

*   **الصمت كسلاح ودرع:** صمت أليسيا ليس مجرد غياب للكلام. إنه فعل احتجاج، ودرع حماية، وسلاح سلبي ضد عالم خذلها. الرواية تطرح سؤالًا فلسفيًا: هل الصمت أحيانًا أبلغ من أي كلام؟

*   **الحقيقة والخداع:** من خلال الراوي غير الموثوق به، يلعب ميكايليديس بفكرة أن الحقيقة نسبية وتعتمد على من يروي القصة. الرواية بأكملها هي تمرين في التضليل، مما يجبر القارئ على أن يكون محققًا نشطًا، لا مجرد متلقٍ سلبي.

 

---

**(تحذير: الفقرات التالية تحتوي على حرق لأحداث الرواية المحورية والنهاية)**

 

#### **النهاية التي أعادت تعريف الصدمة**

 

ما يرفع "المريضة الصامتة" من رواية جيدة إلى عمل خالد هو نهايتها. الانعطافة الأخيرة ليست مجرد مفاجأة، بل هي ضربة قاضية تعيد هيكلة كل ما قرأه القارئ وتجبره على إعادة تقييم كل كلمة وكل حدث.

 

  1. الاكتشاف الصادم هو أن الخطين الزمنيين ليسا متوازيين كما كنا نعتقد. مذكرات أليسيا تدور أحداثها
  2.  في الماضي البعيد، قبل أن يلتقي ثيو بزوجته كاثي. والشخص الذي كانت كاثي تخون ثيو معه لم يكن
  3.  سوى غابرييل، زوج أليسيا. ثيو، في نوبة غضب وغيرة، يقتحم منزل غابرييل وأليسيا ليس للانتقام
  4.  من غابرييل، بل لكشف خيانته أمام زوجته.

 هو من يربط غابرييل بالكرسي ويجبره على الاختيار بين حياته وحياة أليسيا، مكررًا بذلك صدمة طفولة أليسيا عندما خيرها والدها بنفس الطريقة. عندما يختار غابرييل إنقاذ نفسه، يطلق ثيو طلقات تحذيرية في السقف ويغادر، تاركًا وراءه أليسيا محطمة نفسيًا. الصدمة المزدوجة – خيانة زوجها وتكرار صدمة طفولتها – هي ما يدفعها لقتل غابرييل ثم الانغماس في الصمت.

 

إذًا، المعالج الذي كان يحاول "إنقاذ" أليسيا هو نفسه الشخص الذي دمر حياتها. هذه النهاية ليست مجرد "كشف للقاتل"، بل هي كشف مروع عن التلاعب السردي والنفسي الذي تعرض له القارئ طوال الرواية.

 

 

**فى الختام؟**

 

تنجح "المريضة الصامتة" لأنها تفعل كل ما يجب أن تفعله رواية الإثارة النفسية، ولكن بمستوى أعلى من الحرفية والعمق. إنها تجمع بين حبكة سريعة الإيقاع لا يمكن تركها، وشخصيات معقدة تثير التعاطف والريبة، واستكشاف ذكي لمواضيع الصدمة والذاكرة والصمت.

 لكن ما يميزها حقًا هو ذلك التناغم المثالي بين علم النفس، والأسطورة اليونانية، والبنية السردية المبتكرة، الذي يتوج بواحدة من أكثر النهايات إتقانًا وصدمة في الأدب الحديث. إنها رواية لا تقرأها مرة واحدة، بل تعود إليها لتكتشف الإشارات والقرائن التي كانت أمام عينيك طوال الوقت، مختبئة ببراعة في صمت البطلة وأكاذيب الراوي.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent