recent
أخبار ساخنة

### **"ظلال لاسعة": تشريح المنفى ومتاهات الروح العراقية في أدب فيحاء السامرائي**

الصفحة الرئيسية

 

### **"ظلال لاسعة": تشريح المنفى ومتاهات الروح العراقية في أدب فيحاء السامرائي**

 

في المشهد الأدبي العربي المعاصر، يبرز أدب المهجر كحقل خصب تتشابك فيه خيوط الذاكرة مع واقع الاغتراب، وتتصارع فيه الهويات المزدوجة بحثاً عن معنى في عالم متغير. ومن قلب هذه التجربة الإنسانية المركبة، تقدم لنا الكاتبة العراقية فيحاء السامرائي أحدث إبداعاتها، المجموعة القصصية "ظلال لاسعة"، الصادرة عن "دار لندن للطباعة والنشر".

في المشهد الأدبي العربي المعاصر، يبرز أدب المهجر كحقل خصب تتشابك فيه خيوط الذاكرة مع واقع الاغتراب، وتتصارع فيه الهويات المزدوجة بحثاً عن معنى في عالم متغير. ومن قلب هذه التجربة الإنسانية المركبة، تقدم لنا الكاتبة العراقية فيحاء السامرائي أحدث إبداعاتها، المجموعة القصصية "ظلال لاسعة"، الصادرة عن "دار لندن للطباعة والنشر".
### **"ظلال لاسعة": تشريح المنفى ومتاهات الروح العراقية في أدب فيحاء السامرائي**


### **"ظلال لاسعة": تشريح المنفى ومتاهات الروح العراقية في أدب فيحاء السامرائي**

  •  لا يمكن قراءة هذا العمل المكون من 280 صفحة ك مجرد مجموعة من الحكايات، بل ك مشروع
  •  سردي متكامل، يرسم خارطة جغرافية ونفسية معقدة للشتات العراقي، ويغوص في أعماق الجرح
  •  الوطني الذي لا يزال ينزف.

**بنية ثلاثية الأبعاد جغرافيا الألم والأمل المستحيل**

 

تتخذ السامرائي من البناء الثلاثي هيكلاً لمجموعتها، مقسمةً فضاءاتها السردية إلى ثلاث مساحات مكانية وزمانية متمايزة، لكنها متصلة عضوياً برباط الألم العراقي. هذا التقسيم ليس مجرد توزيع جغرافي، بل هو بنية فنية تعكس الانشطار في الروح العراقية المعاصرة.

 

**المساحة الأولى لندن وضباب المنفى**

تأخذنا الكاتبة إلىلندن، ليس كعاصمة عالمية صاخبة، بل كمسرح خلفي لحياة جالية من المنفيين العراقيين. الزمن محدد بدقة: ما بعد غزو عام 2003. الشخصيات هنا ليست مهاجرين اقتصاديين شباب، بل هم في الغالب منفيون سياسيون تجاوزوا منتصف العمر

  •  ووصلوا إلى بريطانيا وقد استنفدت سنواتهم أفضل فرص الاندماج. تصورهم السامرائي كأرواح
  •  معلقة، عالقة بين حنين مؤلم لوطن لم يعد موجوداً كما في ذاكرتهم، وواقع بارد يعيشون على هامشه.
  •  إنهم يعيشون عزلة مزدوجة: عزلة عن المجتمع البريطاني الذي لم يستطيعوا الانصهار فيه، وعزلة
  •  فردية عمّقتها تجربة المنفى الطويلة، حيث تحولت حياتهم إلى طقوس رتيبة من الانتظار والترقب.

 

**المساحة الثانية العراق ومرايا الخيبة**

تنتقل القصص بعد ذلك إلى العراق، لتقدم لنا الوجه الآخر للمأساة. هنا، تعمل السردية كمرآة تعكس أسباب استحالة العودة. ترصد الكاتبة بعين ناقدة وموجوعة التحولات السلبية التي طرأت على المجتمع خلال العقدين الأخيرين. يطفو على السطح "نظام المحاصصة" الذي ابتلع مؤسسات الدولة، وانتشار الفساد، وتآكل القيم الاجتماعية.

  1.  هذه القصص لا تقدم مجرد بانوراما سياسية، بل تغوص في التفاصيل اليومية لحياة المواطنين الذين
  2.  يكابدون من أجل البقاء، مقدمةً بذلك تبريراً ضمنياً، ولكنه قاطع، لقرار المنفيين بالبقاء في غربتهم
  3.  فكلا المكانين، المنفى والوطن، أصبحا سجناً بشكل أو بآخر.

 

**المساحة الثالثة الفنتازيا كهروب من الجاذبية العراقية**

في القسم الثالث والأكثر جرأة من الناحية الفنية، تحلق السامرائي بعيداً عن الواقع المباشر إلى عوالم "اللامكان واللازمان". تنتمي هذه القصص إلى أدب الخيال العلمي والفنتازيا، حيث نجد أصداء لأفلام مثل "حرب النجوم"، مع عربات تسافر بسرعة الضوء وشخصيات تتحرك في أكوان موازية. 

  • لكن هذا التحليق الكوني ليس هروباً من الثيمة الأساسية، بل هو امتداد لها. ففي نهاية المطاف، تظل
  •  هذه القصص تدور في فلك الهم العراقي. يبدو الأمر وكأن الكاتبة تقول إن الجرح من العمق بحيث لا
  •  يمكن الهروب منه حتى باللجوء إلى أبعد المجرات، فالظلال اللاسعة للوطن تتبع شخصياتها عبر
  •  الزمكان، لتؤكد أن الهوية والجذور أقوى من أي محاولة للنسيان أو التجاوز.

 

**السمات الفنية شعرية اليأس ولغة الانتظار**

 

ما يمنح "ظلال لاسعة" تماسكها الفني وقوتها التأثيرية ليس فقط وحدتها الموضوعاتية، بل أيضاً مجموعة من الخيارات الأسلوبية المتقنة التي تخدم رؤية الكاتبة.

 

أولاً، **هيمنة الفعل المضارع** على السرد. هذا الاختيار ليس نحوياً فحسب، بل هو خيار دلالي عميق. فالفعل المضارع يجمد الزمن الداخلي للشخصيات، ويحول حياتهم إلى حاضر أبدي متكرر، خالٍ من ديناميكية الماضي الذي يمكن التعلم منه والمستقبل الذي يمكن التطلع إليه. الأحداث تتكرر بحكم العادة، لا بحكم الإرادة، مما يخلق شعوراً بالاختناق الزمني.

 

ثانياً، **توظيف المونولوغ الداخلي**. بدلاً من الاعتماد على الراوي العليم صاحب ضمير الغائب، تضعنا السامرائي داخل عقول شخصياتها مباشرة. نحن نستمع إلى حواراتهم الصامتة مع أنفسهم أو مع غائبين متخيلين. هذا الأسلوب يحول القصة إلى ما يشبه "مسرح الشخصية الواحدة"، حيث يصبح العالم الخارجي مجرد ديكور لصراع داخلي مرير. إنه يعكس حالة من الانقطاع التام عن الآخر، حيث لا يجد المنفي أحداً يفهمه سوى صدى صوته في فراغ روحه.

 

ثالثاً، **التوازي مع مسرح العبث**. تشير القراءة النقدية إلى وجود تشابه بنيوي وروحاني مع مسرحية صموئيل بيكيت الشهيرة "في انتظار غودو". شخصيات السامرائي، مثل فلاديمير وإستراغون، ينتظرون. إنهم ينتظرون قطاراً "مؤجلاً إلى إشعار آخر"، وقد نسوا مع طول الانتظار سبب انتظارهم أصلاً. أصبح الانتظار نفسه هو جوهر حياتهم الرتيبة. وكما في مسرح بيكيت، يتخلل هذا اليأس العميق "تهكم خفي" ومرارة ساخرة تجعل المأساة أكثر حدة، فالضحك هنا هو قناع رقيق يخفي صرخة الألم.

 

**"الجانب الآخر من الصمت" نموذج مكثف للمنفى**

 

تتجلى براعة السامرائي في قصة "الجانب الآخر من الصمت"، التي تفتتح المجموعة. في هذه القصة القصيرة والمكثفة، نلتقي براوٍ مجهول وصديقه "محسن"، اللذين يجمعهما طقس الصمت في مقهى بلندن. علاقتهما قائمة على عدم الكلام، على مراقبة حياة الآخرين المتحركة التي تشحن حياتهما الجامدة.

  1.  هذا الإيقاع الرتيب تكسره امرأة غامضة تجلس إلى طاولة الراوي وتتبادل معه أطراف الحديث. هذا
  2.  الحدث البسيط يهز عالم الراوي الساكن، لكن حين يخبر صديقه محسن، ينكر الأخير رؤيته للمرأة
  3.  مما يزرع الشك في عقل القارئ والراوي معاً. هل كانت المرأة حقيقية أم مجرد هلوسة أنتجها العقل
  4.  اليائس؟

 

هنا، تختصر القصة ببراعة حالة المنفى بأكملها: الروتين القاتل، الصمت كلغة للتواصل، الشك في الواقع، والتعلق بأي بارقة أمل عابرة، حتى لو كانت وهماً. اللقاء القصير يصبح حلماً بلقاء مستقبلي، ويتحول إلى "غودو" الخاص بالراوي، الذي سيظل ينتظره إلى الأبد خارج حدود المقهى.

 

**خاتمة**

 

في "ظلال لاسعة"، لا تقدم فيحاء السامرائي مجرد قصص عن العراق والعراقيين، بل تقدم تشريحاً دقيقاً ومؤلماً لمفاهيم الوطن، والمنفى، والذاكرة، واليأس. إنها تثبت أن الكتابة عن الشتات ليست مجرد حنين رومانسي، بل هي مواجهة شجاعة مع ظلال الماضي اللاسعة التي تطارد الأفراد أينما حلوا. عبر 41 قصة

 استطاعت الكاتبة أن تبني صرحاً أدبياً متماسكاً، صوته هادئ لكن أثره عميق، ليصبح هذا الكتاب إضافة نوعية ومهمة لأدب المهجر العراقي والعربي.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent