## "آرون ناقد سارتر": تشريح عميق لأعاصير الفكر الفرنسي في القرن العشرين
يُعد كتاب "آرون ناقد سارتر"، الصادر
حديثًا في باريس عن منشورات كالمان-ليفي (2025) في 476 صفحة، والذي أعدته وقدمت له
بيرين سيمون-ناحوم، بمثابة وثيقة فكرية ثمينة تستعيد وهج السجالات الفلسفية الكبرى
التي طبعت القرن العشرين. يجمع الكتاب بين دفتيه مجموعة من النصوص والمقابلات التي
خطها قلم الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون (1905-1983)، والتي نُشرت
سابقًا في منابر متفرقة، أبرزها محاضراته المعنونة "التاريخ وجدلية العنف"،
التي جاءت كتعقيب نقدي على كتاب جان بول سارتر (1905-1980) الشهير "نقد العقل
الجدلي" (1960).
![]() |
## "آرون ناقد سارتر": تشريح عميق لأعاصير الفكر الفرنسي في القرن العشرين |
هذا الإصدار
يمثل هذا الإصدار ذروة الحوار الفلسفي الراقي، وإن كان شائكًا، بين قامتين فكريتين شكلتا قطبي الرحى في المشهد الثقافي الفرنسي.
لذا، كان اهتمام سيمون-ناحوم، مديرة الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية وأستاذة الفلسفة في المدرسة العليا للمعلمين، منصبًا على رسم إطار دقيق لهذه النقاشات وتسليط الضوء على راهنيتها المدهشة.
- فالغوص في أعماق هذا السجال يكشف للقارئ مدى التقدير الذي كان يكنه آرون لرفيق دراسته
- سارتر كأديب ومفكر غزير الإنتاج، حتى وإن لم يتوانَ آرون قط عن تفكيك أطروحاته وتوجيه نقد
- لاذع، خصوصًا
للمنحى الوجودي والماركسي في فكر سارتر.
**صداقة الطفولة الفكرية وشروخ الإيديولوجيا**
وُلد آرون وسارتر في العام نفسه، وتشاركا مقاعد الدراسة في المدرسة العليا للمعلمين المرموقة في باريس،
حيث توطدت بينهما صداقة
فكرية واعدة، إلى جانب أسماء لامعة أخرى مثل جورج كانغيليم وبول نيزان. لكن منذ
أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت السبل الفلسفية والسياسية تتباعد بينهما. فبينما
استشرف آرون، بعين المحلل الثاقبة، اندلاع الحرب العالمية الثانية مع صعود الأنظمة
الشمولية، كان سارتر يتطلع لأن يكون كاتبًا كبيرًا، وإن لم يكن بمعزل تام عن
الأحداث. القطيعة شبه النهائية وقعت في أوائل الخمسينيات، على خلفية اختلاف رؤيتيهما
للماركسية، معنى التاريخ، ودور المثقف.
- في خضم الحرب الباردة، اصطف الرجلان على جانبي المتراس الأيديولوجي. جسّد سارتر صورة
- المثقف اليساري الثوري، الملتزم بقضايا "المظلومين" ضد "البرجوازية"، والمبرر للعنف الثوري
- أحيانًا، والساعي للتوفيق بين الوجودية والماركسية. في المقابل، مثّل آرون صورة الباحث الليبرالي،
- الأستاذ الجامعي الرصين، والكاتب الصحافي الذي يستند إلى معارفه الأكاديمية لإصدار أحكام متزنة
- حول أسس الحكم الرشيد
منتقدًا ما اعتبره "أفيون المثقفين" (الماركسية)
ووهم التغيير الفوري بالعنف. وعندما اندلعت أحداث مايو 1968، أدان آرون ما أسماه "ثورة
غير موجودة"، ليتهمه سارتر بالتحجر البرجوازي. ورغم القطيعة، جمعتهما مبادرة
إنسانية لدعم اللاجئين الفيتناميين عام 1979، مما أثار تكهنات حول مصالحة لم تكتمل.
**مسارات متنافرة ومنطلقات متباينة**
بدت تباشير الاختلاف جلية في مسار حياتهما؛ فسارتر رفض الوظيفة الجامعية وجائزة نوبل للآداب، بينما تسلم آرون، الدقيق والمحترم للتقاليد الأكاديمية، أرفع المناصب الجامعية.
اعترف آرون بعبقرية سارتر
الأدبية و"خصوبة فكره" على مستوى التنظير، لكنه انتقد بشدة ما اعتبره
انفصالًا عن الواقعية التاريخية. آرون، الذي عُرف كـ"يهودي فرنسي"، تأثر
بصعود النازية ومعاداة السامية، مما دفعه للتفكير العميق في التاريخ، وهو ما تجلى
في أطروحته "مقدمة في فلسفة التاريخ" (1938)، التي ناقش فيها أن التاريخ
لا يسير وفق حتمية، وأن السياسة فعل واعٍ محفوف بالمخاطر.
- أما سارتر، فلم تكن قضايا التاريخ والسياسة مركزية لديه في تلك الفترة المبكرة. ففي "دفاتر الحرب
- الغريبة" (نُشرت 1983)، اعترف بـ"لا مبالاته السياسية" أثناء تجنيده. كان انشغاله الأكبر بمسيرته
- الأدبية وفلسفته الناشئة، متأثرًا بفينومينولوجيا هوسرل وهايدغر، وهو ما أثمر عن كتابه المؤسس
- "الوجود والعدم" (1943)، ثم "الوجودية نزعة
إنسانية" (1946).
**إرث المعركة الفكرية وتقلبات الهيمنة**
يُروى أن آرون وسارتر أبرما، في مقتبل العمر،
ميثاقًا مازحًا بأن يكتب الناجي منهما نعي الآخر. لكن عندما رحل سارتر عام 1980،
كتب آرون في صحيفة "الإكسبرس": "إن الالتزام لم يعد قائمًا"،
معترفًا بالهوة التي حفرها التاريخ بينهما. لقد تحول الصديقان، رغمًا عنهما، إلى
رمزين لمعسكرين فكريين متعارضين، في معركة استمرت نحو ثلاثة عقود، مزقت الأوساط
الفكرية الفرنسية.
- لم يكن وهج أحدهما يتزامن بالضرورة مع وهج الآخر. لمع نجم سارتر لعقود، حتى أمكن الحديث عن
- "عصر سارتر"، حيث هيمن اليسار الفكري المتأثر بالماركسية. في تلك الفترة، كان آرون مهمشًا
- نسبيًا. لكن مع أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، انقلبت الآية؛ تراجع نجم سارتر، بينما ازداد بريق
- آرون
حتى بعد وفاته، ليبدو وكأنه المنتصر في ميدان الفكر. وظهرت حينها مقولة
أنصار سارتر الشهيرة: "من الأفضل أن نكون مخطئين مع سارتر على أن نكون على
صواب مع آرون"، وهي عبارة أثارت حيرة المؤرخين لأنها قوضت مبدأ العقل كمعيار
للحكم.
- فكر آرون في التاريخ "كما هو"، بينما حلم به سارتر "على ما ينبغي أن يكون". وصف جاك
- أوديبيرتي سارتر بأنه "حارس ليلي على جميع جبهات الفكر"، عبارة تحمل إشادة بيقظته وتهكمًا على
- انفصاله أحيانًا عن الواقع. أما آرون، فرأى أن كتاباته ستُظهر "تحليلات وتطلعات وشكوك رجل
- غارق في التاريخ".
**راهنية آرون وخفوت الجدل الفكري المعاصر**
اليوم، ومع إعادة نشر نصوص آرون حول سارتر، يعود الاهتمام بأفكاره، وتعود ذكرى عصر كان فيه المثقفون أسيادًا على الساحة. الكتاب الجديد يعيد تسليط الضوء على عمق تلك السجالات التي جمعت سارتر وآرون وكامو وميرلو بونتي وألتوسير وفوكو وليفي ستروس. هذه المعارك الكبرى، التي شكلت وعي أجيال، لم يعد لها وجود يذكر في عالم اليوم، حيث حلت محلها الآراء المبعثرة في وسائل الإعلام، وغابت الشخصيات القادرة على تقديم رؤى شاملة.
الختام
إن قراءة النصوص التي
اختارتها سيمون-ناحوم تجعلنا نشعر بـ"خفة" الحياة الفكرية الراهنة،
وبأهمية العودة إلى تلك الينابيع الثرية لفهم ليس فقط الماضي، بل وتحديات الحاضر.