**أمية الجهل والجهل بالأمية: نحو رؤية شاملة لمفهوم المعرفة**
لطالما اعتُبرت القدرة على القراءة والكتابة حجر
الزاوية في تعريف الحضارة الإنسانية، والسبيل الأمثل للارتقاء بالمجتمعات ونموها.
فمحو الأمية، بمعناها التقليدي، يمثل الخطوة الأولى نحو تجاوز قيود الجهل والفقر،
وفتح آفاق أوسع للتنمية والازدهار.
**أمية الجهل والجهل بالأمية: نحو رؤية شاملة لمفهوم المعرفة** |
لكن هل يقتصر مفهوم الأمية حقًا على مجرد العجز
عن فك رموز الحروف وتسطير الكلمات؟ وهل يكفي أن نعلن عن انخفاض نسب الأمية بمعناها
الحرفي لنحتفي بانتصار حقيقي على الجهل؟
إنّ التدقيق في واقع الحال
يكشف لنا عن جوانب أخرى أكثر تعقيدًا، وأبعاد أعمق تتجاوز التعريفات السطحية للأمية. فالأرقام والإحصائيات التي تتناول نسب الأمية في مختلف دول العالم قد تكون مضللة ومبسطة للواقع، إذ غالبًا ما تركز على "العجز عن القراءة والكتابة" كمعيار وحيد، متجاهلةً أبعادًا أخرى بالغة الأهمية.
- فماذا عن أولئك الذين يتقنون القراءة والكتابة
- ولكنهم يفتقرون إلى القدرة على توظيف هذه المهارات في حياتهم اليومية؟
- وماذا عن أولئك الذين يملكون شهادات جامعية
- ولكنهم يعجزون عن التفكير النقدي وحل المشكلات المعقدة؟
- هنا تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم الأمية
- وتوسيع نطاقه ليشمل
أشكالًا أخرى من الجهل والقصور المعرفي.
**الأمية الوظيفية تحدٍّ يتجاوز القراءة والكتابة**
يُعدّ مفهوم "الأمية الوظيفية" أو
"المهارية" (Functional Illiteracy) مدخلًا
أساسيًا لفهم أبعاد الأمية الحقيقية. فالأمي وظيفيًا هو الشخص الذي يمتلك القدرة
على القراءة والكتابة، ولكنه يفتقر إلى المهارات والمعارف الضرورية لاستخدام هذه
الأدوات بفعالية في حياته اليومية، سواء على الصعيد الشخصي أو المجتمعي. إنه الشخص
الذي قد يستطيع قراءة الصحف والمجلات، ولكنه يعجز عن فهم مضمونها وتوظيف المعلومات
الواردة فيها لتحسين حياته. إنه الشخص الذي قد يكون قادرًا على كتابة الرسائل،
ولكنه يفتقر إلى القدرة على التعبير عن أفكاره بوضوح ودقة.
- إنّ الأمية الوظيفية لا تتعلق فقط بالمهارات اللغوية
- بل تتعداها لتشمل جوانب أخرى من المعرفة والقدرات
- مثل القدرة على الحساب، والتفكير النقدي، وحل المشكلات
- والتواصل الفعال، والتعامل مع التكنولوجيا الحديثة.
- وبعبارة أخرى، فإنّ الأمي وظيفيًا هو الشخص
- الذي يعجز عن المشاركة الفعالة في المجتمع
- وتحقيق طموحاته الشخصية والمهنية
- بسبب قصوره في امتلاك المهارات والمعارف الأساسية.
**مستويات الأمية الوظيفية تفاوت في القدرات والإمكانيات**
لا شك أن الأمية الوظيفية ليست حالة واحدة، بل
تتفاوت درجاتها ومستوياتها تبعًا لعدة عوامل، مثل طبيعة المجتمع ومتطلباته، ومستوى
التعليم والتدريب المتاح، والقدرات الفردية. ففي بعض المجتمعات التي تتطلب مستوى
عالٍ من المهارات التقنية والمعرفية، قد يعتبر الشخص أميًا وظيفيًا حتى لو كان
حاصلًا على شهادة جامعية، وذلك بسبب قصوره في امتلاك المهارات الضرورية لمواكبة
التطورات السريعة.
ويمكن تقسيم مستويات الأمية الوظيفية إلى أربعة
مستويات رئيسية:
1. **المستوى
الأدنى:** وهو المستوى الذي يعجز فيه الشخص عن قراءة وكتابة النصوص البسيطة
وفهمها، ولا يمتلك المهارات الحسابية الأساسية.
2. **المستوى
الأساسي:** وهو المستوى الذي يستطيع فيه الشخص قراءة وكتابة النصوص البسيطة
وفهمها، وإجراء العمليات الحسابية الأساسية، ولكنه يفتقر إلى القدرة على تحليل
النصوص المعقدة وحل المشكلات.
3. **المستوى
المتوسط:** وهو المستوى الذي يستطيع فيه الشخص قراءة وكتابة النصوص المعقدة وفهمها،
وإجراء العمليات الحسابية المتقدمة، ولكنه يفتقر إلى القدرة على التفكير النقدي
والإبداعي.
4. **المستوى
المتقدم:** وهو المستوى الذي يمتلك فيه الشخص القدرة على استخدام القراءة والكتابة
والحساب والتفكير النقدي والإبداعي، وتوظيف هذه المهارات في حياته اليومية
والمجتمعية.
**أشكال أخرى للأمية الجهل الخفي والمستتر**
بالإضافة إلى الأمية الوظيفية، هناك أشكال أخرى
من الأمية تستحق الاهتمام، وتتطلب معالجة جادة. فمن بين هذه الأشكال، تبرز
"الأمية الاغترابية" التي تعني عدم القدرة على القراءة والكتابة بلغة
المجتمع الذي يعيش فيه الشخص، بغض النظر عن مستواه التعليمي بلغته الأم. كما تبرز
"الأمية الخفية" التي تعني الجهل بالجهل، أو الرضا به، وهي الأخطر على
الإطلاق، لأنها تحول دون سعي الشخص نحو اكتساب المعرفة وتطوير الذات.
- وتتخذ الأمية الخفية أشكالًا متعددة، منها الأمية الصحية، والأمية البيئية
- والأمية التكنولوجية، والأمية الإعلامية، والأمية الاقتصادية
- والأمية العقلية، والأمية العاطفية، والأمية النقدية، والأمية العرقية
- والأمية الجغرافية، والأمية التاريخية، والأمية السياسية، والأمية البصرية
- والأمية السمعية، والأمية العابرة لأشكال التلقي.
- وكل هذه الأشكال من الأمية تؤثر سلبًا على الفرد والمجتمع
- وتعيق جهود التنمية والتقدم.
**نحو مجتمعات أكثر تعلمًا رؤية تتجاوز الأرقام والإحصائيات**
إنّ المعركة الحقيقية ضد الجهل لا تقتصر على محو
الأمية بمعناها التقليدي، بل تتعداها إلى بناء مجتمعات أكثر تعلمًا، تمتلك القدرة
على التفكير النقدي والإبداعي، وتوظيف المعرفة في خدمة التنمية والازدهار. وهذا
يتطلب من الحكومات والمؤسسات التعليمية تبني رؤية شاملة للتعليم، تركز على تنمية
المهارات والمعارف الضرورية للعيش في عالم اليوم، وتلبية احتياجات المستقبل.
- كما يتطلب ذلك تغييرًا في المناهج التعليمية
- بحيث تصبح أكثر تفاعلية وتشويقًا
- وتشجع الطلاب على البحث والتساؤل والتفكير النقدي.
- ويتطلب أيضًا توفير فرص متساوية للتعليم والتدريب
- لجميع أفراد المجتمع،
بغض النظر عن جنسهم أو عرقهم أو وضعهم الاجتماعي.
إنّ بناء مجتمعات أكثر تعلمًا ليس مجرد هدف
نبيل، بل هو ضرورة حتمية لتحقيق التنمية المستدامة، وبناء مستقبل أفضل للأجيال
القادمة. فالمعرفة هي القوة الحقيقية التي تمكننا من مواجهة التحديات، وتحقيق
طموحاتنا، والارتقاء بمجتمعاتنا نحو الأفضل.
**كلمة أخيرة**
إنّ الأمية، بمفهومها الشامل والمتجدد، ليست
مجرد عجز عن القراءة والكتابة، بل هي قصور في القدرة على توظيف المعرفة في خدمة
الفرد والمجتمع. وإنّ التحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم هو تجاوز الأرقام
والإحصائيات السطحية، والنظر بعمق إلى واقع الحال، وفهم الأبعاد الحقيقية للأمية،
والعمل بجد على محوها بكل أشكالها ومستوياتها. وعندما ننجح في ذلك، سنكون قد خطونا
خطوة كبيرة نحو بناء مجتمعات أكثر عدالة ومساواة، وأكثر قدرة على تحقيق التنمية
والازدهار.