### **"اكتشاف اليابان": رحلة باتريثيا ألمارثيغي في شقوق الروح اليابانية المعاصرة**
يُعدّ أدب الرحلات فناً فريداً يتجاوز مجرد
توثيق المشاهدات الجغرافية أو تسجيل الانطباعات العابرة. إنه، في أعمق تجلياته،
محاولةٌ لفهم روح المكان، وسبر أغوار ثقافة وهوية شعب ما من خلال عدسة خارجية،
قادرة على التقاط ما قد يغفل عنه أهل الدار أنفسهم.
![]() |
### **"اكتشاف اليابان": رحلة باتريثيا ألمارثيغي في شقوق الروح اليابانية المعاصرة** |
- وفي هذا السياق، يأتي كتاب "اكتشاف اليابان" للكاتبة الإسبانية باتريثيا ألمارثيغي، والذي ترجمته آية
- عبد الرحمن أحمد وصدر عن "دار العربي"، ليقدم للقارئ العربي نافذة بانورامية شديدة الثراء
- والتعقيد على بلد الشمس المشرقة. لا يكتفي الكتاب بتقديم صورة سياحية، بل يغوص في أعماق
- التناقضات التي تشكل نسيج المجتمع الياباني الحديث، مقدماً بورتريه حياً لأمة تقف عند مفترق طرق
- تاريخي، تتأرجح بين ماضيها العريق ومستقبلها الغامض.
**منهجية الكشف بين الذاتي والموضوعي**
تتفرد ألمارثيغي في مقاربتها لليابان بأسلوب يمزج ببراعة بين السرد الذاتي والتحليل الثقافي العميق. فالكتاب ليس مجرد يوميات رحلة، بل هو نتاج رحلتين تفصل بينهما أكثر من عقد من الزمان (2008 و2019)، ما يمنح الكاتبة منظوراً زمنياً يسمح لها برصد التحولات والتغيرات الدقيقة.
- تتكئ ألمارثيغي على ذاكرتها ويومياتها المفقودة جزئياً، لكنها تدعم شهادتها الشخصية بترسانة معرفية
- واسعة من المراجع الأدبية والسينمائية والتاريخية، من أعمال ياسوناري كاواباتا وأكيرا كوروساوا
- إلى "كتاب الساموراي" وخطابات ميشيما، مروراً
بأشعار رهبان الزن.
لكن ما يمنح الكتاب روحه الحقيقية هو الجانب الإنساني والشخصي الذي لا تتردد الكاتبة في تسريبه بين السطور. نتعرف على شذرات من حياتها الخاصة، كمرض والدتها بالألزهايمر، وهو ما يلقي بظلال من الفقد والذاكرة على رحلتها، وعلاقتها بشريك سفرها الذي تتعمد إبقاءه مجهولاً، ليصبح رمزاً للرفقة الصامتة في رحلة الكشف.
هذا التداخل بين العام والخاص يكسر جدار الحياد الأكاديمي ويحول النص إلى شهادة حية، حيث تصبح اليابان مرآة تنعكس عليها هواجس الكاتبة وأسئلتها الوجودية، وتصبح رحلتها الشخصية مفتاحاً لفهم القلق الجماعي الياباني.
**المفارقات الاقتصادية عملاق تكنولوجي على أسس هشة**
تقدم ألمارثيغي صورة مركبة للاقتصاد الياباني،
بعيداً عن السردية التبسيطية لـ"المعجزة اليابانية". فبينما تقف اليابان
كثالث أكبر اقتصاد في العالم وثاني أكبر اقتصاد في آسيا، وتتمتع بأعلى معدل
للمتعلمين عالمياً بنسبة 98%، تكشف الكاتبة عن شقوق عميقة في هذا الصرح الشاهق. ترصد
كيف أن اليابان، التي نهضت من رماد الحرب العالمية الثانية لتصبح قوة تكنولوجية
رائدة، تعاني اليوم من كونها أكثر اقتصادات العالم ديوناً.
- الأكثر إثارة للقلق هو التفاوت الاجتماعي الصارخ الذي ترصده. فخلف واجهة التقدم والازدهار
- يكشف تقرير لوزارة العدل (2009) عن وجود 22 مليون شخص يعانون من الفقر. وتؤكد دراسة
- لليونيسف أن اليابان تسجل أحد أعلى معدلات فقر الأطفال في العالم المتقدم. هذه الحقيقة المروعة
- تتناقض بشكل حاد مع
صورة اليابان كدولة رفاه.
كما تسلط ألمارثيغي الضوء على جانب مظلم ومسكوت
عنه في الاقتصاد الياباني، وهو "صناعة الترفيه" التي تعد أكبر صناعة
إباحية في العالم، وتعتبر المصدر الثاني للدخل في البلاد. هذا الاعتماد الاقتصادي
على صناعة تستغل الجسد، في مجتمع يُعرف ظاهرياً بتحفظه وصرامته، هو إحدى المفارقات
الكبرى التي يكشفها الكتاب، ويشير إلى أن منطق الربح قد تغلب على القيم التقليدية،
وإن كان ذلك يتم تحت غطاء من التقنين والتنظيم.
**النسيج الاجتماعي تشبث بالهرمية في مواجهة التفكك**
تغوص الكاتبة في بنية المجتمع الياباني، الذي لا
يزال يعتمد على مفهوم "آي" (あい)، المتعلق بالنسب والتسلسل الهرمي. فالولاء للإمبراطور، والوفاء في
العلاقات الأسرية، وواجب الأبناء تجاه الآباء، والنساء تجاه الرجال، كلها قيم لا
تزال حاضرة. لكن هذا التجانس الظاهري يخفي تحته تراتبية طبقية قاسية، تتجلى في وضع
طبقة "البوراكو"، المنحدرين من الطبقة الدنيا في العصر الإقطاعي، والذين
لا يزالون يعانون من التمييز غير الرسمي على الرغم من المساواة القانونية.
- أما وضع المرأة فيمثل ساحة أخرى للتناقض. فبينما يمتلك الأدب الياباني الكلاسيكي أسماء نسائية
- لامعة مثل موراساكي شيكيبو وسي شوناغون، لا تزال المرأة اليابانية المعاصرة تواجه تحديات
- جسيمة. فالمجتمع، كما تلاحظ ألمارثيغي، لا يزال يرى أنه "من غير المفيد أن تحصل النساء على
- مؤهلات أعلى من أزواجهن"، ويظل الزواج هو الهدف الأسمى لمعظمهن، وهو ما ينعكس في شغل
- النساء لـ 10% فقط من المناصب القيادية.
وتلفت الكاتبة الانتباه إلى ظواهر اجتماعية
مقلقة تعبر عن أزمة عميقة، خاصة بين الشباب. فظاهرة الـ "نيت" (NEET)
وهم الشباب العاطلون عن العمل والتعليم، والـ "فريتر" (Freeter) وهم
الشباب المتعلمون الذين يعملون في وظائف مؤقتة وغير مستقرة، تشير إلى انهيار نموذج
"الوظيفة مدى الحياة" الذي قامت عليه المعجزة الاقتصادية، وتكشف عن شعور
بالضياع وفقدان الأمل لدى جيل كامل.
**الروح اليابانية بين الشنتو والبوذية وقلق الهوية**
تستكشف ألمارثيغي العمق الروحي والثقافي
لليابان، فتجد بلداً متجانساً روحياً بشكل فريد، حيث تتعايش ديانة "الشنتو"
الأصلية مع البوذية الوافدة. تلخص هذه العلاقة بعبارة بليغة: "يلجأ
اليابانيون إلى الشنتوية للحصول على المساعدة في هذه الحياة، وإلى البوذية للوصول إلى
الخلود في الحياة الأخرى". هذا التجانس، الذي عززه تاريخ طويل من العزلة
النسبية، يواجه اليوم تحديات جديدة.
- أحد أبرز هذه التحديات هو قلق الهوية اللغوية والثقافية. فبعد قرون من التأثير الصيني على اللغة
- والأدب الراقي، تواجه اليابان اليوم قلقاً من هيمنة اللغة الإنجليزية بفعل العولمة، وهو ما عبرت عنه
- رواية "عندما تختفي اللغة اليابانية" لميناي ميزمورا. هذا القلق يعكس خوفاً أعمق من فقدان
- الخصوصية الثقافية في عالم متجانس.
وتتوقف ألمارثيغي عند مفهوم "مو" (無)، الذي يعني "اللاشيء" أو "الفراغ"، وهو مفهوم
مركزي في فلسفة الزن البوذية، وتجده حاضراً في أعمال سينمائية كبرى مثل أفلام
ياسوجيرو أوزو. هذا الاحتفاء بالفراغ واللاشيء يقدم رؤية للعالم تختلف جذرياً عن
المادية الغربية، ويمثل أحد مفاتيح فهم النفسية اليابانية التي تقدر الصمت
والإيحاء أكثر من التصريح المباشر.
** يابان القلق والبحث عن الذات**
في نهاية المطاف، تخلص باتريثيا ألمارثيغي إلى
أن اليابان المعاصرة هي أمة يسكنها قلق مزدوج: قلق داخلي من التفاوت الاجتماعي
المتزايد وتآكل النسيج الأسري، وقلق خارجي من التطور الصيني المطرد الذي يهدد
مكانتها الإقليمية. بعد خمسين عاماً من الانفتاح على الغرب، يبدو أن اليابان، كما
لاحظت الكاتبة، بدأت تميل مجدداً للاندماج في محيطها الآسيوي، رافعةً شعار "القديم
يواجه الجديد" في محاولة لإعادة تعريف هويتها.
فى الختام
إن "اكتشاف اليابان" ليس مجرد كتاب رحلات، بل هو عمل تحليلي وإنساني عميق ينجح في تفكيك الصور النمطية والكليشيهات المرتبطة باليابان. إنه دعوة للنظر إلى ما وراء القطارات فائقة السرعة، وناطحات السحاب، وأزهار الكرز، لنرى مجتمعاً معقداً ومركباً، يكافح من أجل التوفيق بين تقاليده الراسخة ومتطلبات الحداثة القاسية، ويبحث عن طريقه في عالم متغير.
ومن
خلال عدسة ألمارثيغي الذكية والحساسة، نكتشف أن اليابان ليست مجرد بلد، بل هي
فكرة، وحلم، وكابوس، ومفارقة مستمرة.