**ابن النفيس: عبقرية طبية وفكرية أضاءت سماء الحضارة الإسلامية**
في سماء الحضارة الإسلامية، بزغت نجوم لامعة،
أضاءت دروب العلم والمعرفة، وأرست أسسًا متينة للتقدم والازدهار.
**ابن النفيس: عبقرية طبية وفكرية أضاءت سماء الحضارة الإسلامية** |
ومن بين هؤلاء النجوم، يتربع اسم الطبيب والعالم
الجليل، أبو الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم، المعروف بـ "ابن
النفيس"، كقامة شامخة في تاريخ الطب والعلوم الإنسانية. لم يكن ابن النفيس
مجرد طبيب ماهر، بل كان مفكرًا موسوعيًا، جمع بين العلم والفلسفة، وقدم للبشرية
إسهامات جليلة، لا يزال صداها يتردد في أروقة العلم الحديث.
**مولده ونشأته دمشق مهد العبقرية**
في عام 607 هـ (1213 م)، أشرقت شمس ابن النفيس في مدينة دمشق، حاضرة العلم والثقافة في تلك الحقبة الزمنية. ترعرع ابن النفيس في بيئة زاخرة بالعلماء والأدباء.
- مما أثر في تكوينه الفكري
- وغرس فيه حب العلم والبحث والتنقيب.
- تلقى تعليمه الأولي في دمشق
- حيث أتقن اللغة العربية وآدابها
- ودرس الفقه والتفسير، قبل أن يتجه بكل شغف نحو دراسة الطب.
**رحلته العلمية من دمشق إلى القاهرة**
تتلمذ ابن النفيس على يد كبار أطباء عصره في
دمشق، ومن بينهم الطبيب الشهير "الدخوار"، الذي كان له بالغ الأثر في
صقل موهبته الطبية، وتوجيهها نحو البحث والتجربة. ولكن طموح ابن النفيس لم يتوقف
عند حدود دمشق، فقرر الرحيل إلى القاهرة، عاصمة الدولة الأيوبية، والتي كانت آنذاك
مركزًا مرموقًا للعلم والمعرفة.
- في القاهرة، انضم ابن النفيس إلى المستشفى الناصري
- الذي كان يُعدّ من أبرز المؤسسات الطبية في العالم الإسلامي.
- هناك، تدرج في المناصب، حتى أصبح رئيسًا للأطباء
- ومسؤولًا عن إدارة المستشفى.
- قضى ابن النفيس معظم حياته في القاهرة
- بين أروقة المستشفى ومكتبته، منكبًا على دراسة الطب
- وإجراء التجارب، وتأليف الكتب، وتعليم الطلاب.
**اكتشاف الدورة الدموية الصغرى إنجاز غير مسبوق**
يُعدّ اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية الصغرى،
أو الدورة الرئوية، من أعظم الإنجازات العلمية في تاريخ الطب. فقبل ابن النفيس،
كان الاعتقاد السائد بأن الدم ينتقل من البطين الأيمن للقلب إلى البطين الأيسر
مباشرة عبر ثقوب غير مرئية في الحاجز الفاصل بين البطينين. إلا أن ابن النفيس، من
خلال دراسته التشريحية الدقيقة، ودقة ملاحظته، أدرك أن هذا الاعتقاد خاطئ، وأن
الدم يمر عبر الرئتين لتنقيته وتزويده بالأكسجين، قبل أن ينتقل إلى البطين الأيسر
ليتم ضخه إلى باقي أجزاء الجسم.
- لقد وصف ابن النفيس هذه الدورة الدموية
- في كتابه الشهير "شرح تشريح القانون"
- الذي يُعدّ من أهم المراجع الطبية في تاريخ الحضارة الإسلامية.
- لم يكن هذا الاكتشاف مجرد إضافة علمية
- بل كان ثورة حقيقية في فهم وظائف الجسم
- ووضع أسسًا جديدة للطب الحديث.
**إسهاماته الطبية الأخرى موسوعية في المعرفة**
لم تقتصر إسهامات ابن النفيس على اكتشاف الدورة
الدموية الصغرى، بل شملت مجالات طبية أخرى، أبرزها:
* **علم
التشريح:** كان ابن النفيس عالمًا متعمقًا في علم التشريح، وقد قام بتصحيح العديد
من المفاهيم الخاطئة التي كانت سائدة في عصره. كما أنه قدم وصفًا دقيقًا لأجزاء
الجسم المختلفة، وعلاقتها ببعضها البعض.
* **طب
العيون:** كان ابن النفيس من الأطباء المهرة في طب العيون، وقد كتب العديد من
المؤلفات في هذا المجال، ومن أشهرها كتابه "المهذب في الكُحل المجرب".
* **علم
الأغذية:** اهتم ابن النفيس بعلم الأغذية، وتأثيرها على صحة الإنسان، وكتب في ذلك
مؤلفات قيمة، تناولت فيها فوائد الأطعمة المختلفة، وطرق تحضيرها.
* **علم
الصيدلة:** كان ابن النفيس عالمًا بالصيدلة، وقد وصف العديد من الأدوية النباتية
والحيوانية والمعدنية، وذكر استخداماتها وفوائدها.
**ابن النفيس الفيلسوف والمفكر رؤية متكاملة**
لم يكن ابن النفيس مجرد طبيب وعالم، بل كان
أيضًا فيلسوفًا ومفكرًا، له رؤية متكاملة للعالم والإنسان. فقد كان مؤمنًا بقيمة
العقل، وأهمية البحث والتجربة في الوصول إلى الحقائق. كما كان يؤمن بضرورة التوفيق
بين العلم والدين، وأن الإسلام يحث على طلب العلم والمعرفة.
- لقد ترك ابن النفيس بصماته الواضحة في مختلف المجالات الفكرية
- فقد كان عالمًا بالتاريخ، وفقيهًا متبحرًا، ولغويًا بارعًا
- . كما أنه كان شاعرًا، وله العديد من الأبيات الشعرية
- التي تعكس ثقافته الواسعة،
وشخصيته المتميزة.
**مؤلفات ابن النفيس ذخيرة علمية خالدة**
ترك ابن النفيس ثروة علمية هائلة، تتمثل في
العديد من المؤلفات القيمة، التي لا تزال مرجعًا هامًا للباحثين والعلماء حتى
يومنا هذا. من أبرز مؤلفاته:
* **شرح
تشريح القانون:** يُعدّ هذا الكتاب من أهم مؤلفات ابن النفيس، وفيه وصف دقيق
للدورة الدموية الصغرى، وأجزاء القلب، والأوعية الدموية.
* **الشامل
في الصناعة الطبية:** موسوعة طبية ضخمة، تُعدّ من أضخم الموسوعات الطبية التي
كتبها شخص واحد في التاريخ الإنساني. وقد جمعت هذه الموسوعة أجزاء واسعة من جهود
المسلمين في الطب والصيدلة على مدى خمسة قرون.
* **شرح
فصول أبقراط:** شرح وتعليق على كتاب "الفصول" لأبقراط، وقد أظهر فيه ابن
النفيس قدرة فائقة على فهم النصوص الطبية، وتحليلها وتفسيرها.
* **المهذب
في الكُحل المجرب:** كتاب قيم في طب العيون، تناول فيه ابن النفيس أمراض العيون
المختلفة، وطرق علاجها.
* **المختصر
في أصول علم الحديث:** كتاب في علم الحديث، أظهر فيه ابن النفيس معرفة واسعة بهذا
العلم.
**وفاته وإرثه تخليد العبقرية**
في عام 687 هـ (1288 م)، رحل ابن النفيس عن
عالمنا، بعد حياة حافلة بالإنجازات والعطاء. وقد ترك وصية وهب بموجبها داره
ومكتبته إلى البيمارستان الناصري، الذي قضى فيه معظم حياته. وقد تركت وفاته فراغًا
كبيرًا في عالم الطب والعلم، لكن إرثه لا يزال حيًا، ومؤثرًا في الأجيال اللاحقة.
- لقد كان ابن النفيس بحق، عبقرية طبية وفكرية
- أضاءت سماء الحضارة الإسلامية
- وقدمت للبشرية إسهامات جليلة
- لا يمكن إنكارها. فهو يمثل نموذجًا للعالم المسلم
- الذي جمع بين العلم والإيمان، وقدم للبشرية خيرًا
عظيمًا.
**خاتمة**
ابن النفيس ليس مجرد اسم في كتب التاريخ، بل هو
رمز للعطاء والإبداع، ودليل على أن الحضارة الإسلامية، قدمت للعالم علماء أفذاذ،
كان لهم بالغ الأثر في تقدم العلوم والمعارف. إن دراسة حياة ابن النفيس، وإسهاماته
العلمية، لهي خير دليل على أهمية العلم في بناء الحضارات، وتقدم الأمم.
آمل أن يكون هذا المقال قد أوفى بالغرض، وقدم
صورة واضحة ومفصلة عن حياة ابن النفيس، وإنجازاته.