### **مقتل مريم الحاوي: حينما يصبح اللغز مرآة للنفس**
في عالم الأدب البوليسي الذي يعجّ بالتحقيقات
التقليدية والمحققين الكلاسيكيين، تبرز رواية "مقتل مريم الحاوي" للكاتبة
إنجي هديب كعمل ينسج خيوطه ببراعة فائقة على نولٍ مزدوج: نول الجريمة الغامضة ونول
النفس البشرية المعقدة.
![]() |
### **مقتل مريم الحاوي: حينما يصبح اللغز مرآة للنفس** |
- لا تكتفي الرواية بطرح السؤال الأزلي "من هو القاتل؟"، بل تغوص عميقاً في سؤال أكثر إلحاحاً
- وألماً: "لماذا؟"، محوّلة مسرح الجريمة إلى ساحة للتحليل النفسي، والضحية إلى محور الكون
- السردي الذي تدور في فلكه كل الأسرار.
**ستار من الغموض جريمة تُغلق ضد المجهول**
تنطلق الرواية من حدث صادم ومفاجئ: انفجار مريب
يودي بحياة امرأة شابة تُدعى مريم الحاوي داخل شقتها. للوهلة الأولى، قد يبدو
الحادث قضاءً وقدراً أو نتيجة إهمال، لكن سرعان ما تتكشف خيوط تشير إلى جريمة
مدبّرة بعناية. ومع ذلك، فإن تعقيد الأدلة أو ربما شحّها يدفع السلطات الرسمية إلى
تسجيل القضية ضد مجهول، وهو القرار الذي يسدل ستارة من اليأس والإحباط على القضية،
لكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه أمام بطلة الرواية الحقيقية.
- هذا الإغلاق الرسمي للقضية ليس مجرد تفصيلة إجرائية، بل هو المحرك الأساسي للأحداث. إنه يمثل
- فشل النظام المؤسسي في الوصول إلى الحقيقة، ويُبرز التناقض الحاد بين العدالة البيروقراطية الباردة
- والبحث
الشخصي الحار عن الحقيقة، الذي تقوده الصداقة والولاء.
**ليلى المحققة التي لم تختر قدرها**
على عكس أبطال الروايات البوليسية المعتادين، ليست "ليلى" محققة شرطة متمرسة أو محامية لامعة. إنها الصديقة المقربة لمريم، العائدة من الخارج لتجد نفسها في مواجهة فاجعة موت صديقتها ولغز يرفض أن يُدفن. دافعها ليس الواجب المهني، بل هو رابطة الصداقة المقدسة، وربما شعور خفي بالذنب أو التقصير.
- هذا الدافع الشخصي يمنح رحلتها التحقيقية عمقاً إنسانياً مؤثراً؛ فكل خيط تتبعه ليس مجرد دليل مادي
- بل هو ذكرى، وكل شاهد تقابله ليس مجرد مصدر للمعلومات، بل هو جزء من عالم صديقتها الذي لم
- تكن تعرفه بالكامل.
تبدأ رحلة ليلى عندما تعثر على حقيبة غامضة تركتها مريم وراءها. هذه الحقيبة ليست مجرد وعاء لأغراض عادية، بل هي "صندوق باندورا" الذي يحتوي على مفاتيح عالم مريم السري.
**متاهة الرموز بطة، بطاقة، واسم غامض**
تكمن عبقرية الحبكة التي صاغتها إنجي هديب في
طبيعة الأدلة التي تتركها مريم. إنها ليست بصمات أو أسلحة جريمة، بل مجموعة من
الرموز السريالية التي تبدو غير مترابطة:
1. **صورة
بطة:** ما الذي يمكن أن تعنيه صورة بسيطة كهذه في سياق جريمة قتل؟ هل هي ذكرى
طفولة؟ رمز لشخص ما؟ أم أنها جزء من شفرة معقدة؟ هذا الدليل يمثل التحدي الأكبر،
حيث يجبر ليلى (والقارئ) على التفكير خارج الصندوق وتجاوز المنطق الجنائي التقليدي.
2. **بطاقة
مشفّرة:** هذا الدليل أكثر وضوحاً في كونه لغزاً مقصوداً. وجود شفرة يعني أن هناك
سراً أرادت مريم إما حمايته أو كشفه بطريقة غير مباشرة. رحلة فك هذه الشفرة تصبح
رحلة موازية لكشف غموض الجريمة نفسها.
3. **ورقة
باسم غامض:** هذا هو الخيط المباشر الوحيد، لكنه يفتح أبواباً لأسئلة جديدة. من هو
صاحب هذا الاسم؟ وما علاقته بمريم؟ هل هو الحبيب، العدو، أم مجرد شاهد عابر؟
هذه الأدلة الثلاثة تشكل معاً خريطة طريق ملتوية
تقود ليلى إلى دهاليز حياة مريم الخفية، حيث كل اكتشاف جديد يضيف قطعة إلى لوحة
الفسيفساء المعقدة التي كانت تمثل شخصيتها.
**التشريح النفسي للضحية ما وراء الجريمة**
تنتقل الرواية بذكاء من كونها مجرد "Whodunit"
(من فعلها؟) إلى "Whydunit" (لماذا فعلها؟)،
وهذا التحول يتم عبر الغوص في أعماق نفسية الضحية، مريم الحاوي. يتضح تدريجياً أن
مريم لم تكن مجرد امرأة قُتلت في شقتها، بل كانت ساحة معركة لصراعات داخلية عنيفة.
الرواية تسلط الضوء على جروحها غير المرئية:
* **التنمّر:**
تكشف رحلة ليلى أن مريم كانت ضحية للتنمر، وهو ما ترك ندوباً عميقة في روحها وشكّل
نظرتها لنفسها وللعالم. هذا الجانب لا يثير تعاطف القارئ فحسب، بل يفتح قائمة من
المشتبه بهم المحتملين من ماضيها.
* **الاضطرابات
النفسية:** تتناول الرواية بجرأة وحساسية موضوع الاضطرابات النفسية التي كانت
تعاني منها مريم. هذا البعد يضيف طبقة أخرى من التعقيد، فالرواية لا تقدمها كضحية
مثالية، بل كإنسانة حقيقية تكافح شياطينها الخاصة. هل كانت هذه الاضطرابات سبباً
في استهدافها؟ أم أنها أثرت على حكمها على الأمور وجعلتها عرضة للخطر؟
من خلال هذه الاستكشافات، تصبح مريم شخصية حية
تنبض بالألم والأمل والأسرار حتى بعد موتها. إن فهم دواخلها يصبح هو المفتاح
الحقيقي لفهم الجريمة، فالقاتل لم يقتل جسداً فحسب، بل استهدف عالماً نفسياً
كاملاً.
**القطعة الأخيرة فلسفة الحقيقة**
تتبنى الرواية فكرة أن الحقيقة ليست اكتشافاً
مفاجئاً بقدر ما هي عملية تجميع دقيقة ومضنية. عبارة "القطعة الأخيرة" التي
قد تكشف القاتل، والتي تتكرر كفكرة محورية، تشير إلى أن كل تفصيلة، مهما بدت تافهة
أو غير مرتبطة—صورة البطة، كلمة عابرة، ذكرى قديمة—قد تكون هي بالضبط ما يكمل
الصورة النهائية. هذه الفلسفة تجعل القارئ شريكاً فعلياً في التحقيق، يجمع القطع
مع ليلى، ويشعر بالتوتر مع كل منعطف جديد في القصة.
في الختام
"مقتل مريم الحاوي" ليست مجرد رواية بوليسية مشوقة، بل هي عمل أدبي عميق يستكشف هشاشة النفس البشرية، وقوة الصداقة في مواجهة الفقد، والظلال التي يمكن أن يخفيها الأشخاص الأقرب إلينا. إنها دعوة للنظر إلى ما وراء السطح، وتذكير بأن كل إنسان هو لغز بحد ذاته، وأن فهم هذا اللغز قد يكون أحياناً هو الطريق الوحيد نحو تحقيق العدالة الحقيقية.
تتركنا
الرواية بعد قراءتها نتساءل: كم من القصص غير المروية وكم من الصراعات الصامتة
تدور خلف الأبواب المغلقة من حولنا؟ وكم "قطعة أخيرة" نحتاج لنفهم حقاً
حقيقة الآخرين؟