## العلوم الإنسانية: نحو تكوين شخصية متكاملة في عالم متغير
لا يخفى على أحد أهمية العلوم الإنسانية في
تشكيل وعينا وفهمنا للعالم من حولنا، فهي بمثابة المرآة التي تعكس لنا طبيعة
الإنسان، أفكاره، علاقاته، ومجتمعاته. لكن في عالمٍ يزداد فيه تركيزنا على العلوم
التكنولوجية والمهن المرتبطة بها، يصبح من الضروري التأكيد على أهمية العلوم
الإنسانية ودورها الحيوي في تكوين الشخصية المتكامل.
## العلوم الإنسانية: نحو تكوين شخصية متكاملة في عالم متغير
العصور القديمة
ففي العصور القديمة، كانت العلوم الإنسانية تشكل
اللبنة الأساسية للتعليم. فقد اعتبرت الفلسفة، الأدب، والفنون أسسًا لبناء شخصية
متكاملة تمتلك قدرًا عالٍ من الذوق الرفيع والثقافة العميقة. كان الهدف من التعليم
في تلك الحقبة هو غرس القيم الأخلاقية والفضائل العليا في نفوس الأفراد، وإعدادهم
لحياة هادفة تسعى إلى تحقيق التوازن بين العقل والروح.
مع مرور الزمن، وشروق عصر النهضة، ثم العصر الصناعي،
أخذت العلوم الطبيعية مسارًا متسارعًا نحو التطور والابتكار. احتاجت الصناعة إلى
مهندسين وكيميائيين وجيولوجيين، مما أوجد إقبالًا واسعًا على هذه المجالات العلمية.
لكن هذا التغير لم يكن على حساب العلوم الإنسانية، بل على العكس، فقد شهدت هذه
العلوم نهضة جديدة بدءًا من القرن الثامن عشر.
فقد استقلت العديد من العلوم الإنسانية بموضوعها
ومنهجها الخاص، مثل علم الاقتصاد، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، وعلم النفس. وأضيفت
هذه العلوم إلى العلوم الإنسانية التقليدية مثل الفلسفة، التاريخ، الجغرافيا،
والسياسة. يجمع بين جميع هذه العلوم هدف واحد هو دراسة الظاهرة الإنسانية في جميع
جوانبها، وكشف أسرارها، وفهم دوافعها.
أسرار الطبيعة
فإذا كانت معرفة أسرار الطبيعة أمرًا هامًا
للإنسان، حيث تزيد من تمكنه من السيطرة عليها واستغلالها، فإن فهم الظاهرة
الإنسانية ليس بأقل أهمية. فبينما تعمل الطبيعة وفقًا لقوانين ثابتة، يُصبح الفرد
هو المحرك الرئيسي للظاهرة الإنسانية. ونظراً لتطور المجتمعات وتغيرها المستمر،
يصبح فهم الإنسان وسلوكه أمراً بالغ الأهمية لضمان التوازن والاستقرار في
المجتمعات.
واستجابت العلوم الإنسانية للتغيرات العالمية
والتطور المعرفي الذي شهدته البشرية. فقد استفادت من منهجية العلوم الطبيعية في
دراسة الظواهر، وابتكرت أساليبها الخاصة لدراسة الإنسان وسلوكه. وبدأت في النظر
إلى المجتمع على أنه ظاهرة موضوعية متغيرة تتطلب دراسة عميقة لفهم سلوك أفرادها
وتفاعلاتهم.
القرن التاسع عشر
ففي القرن التاسع عشر، ظهرت مدارس فكرية عديدة
اعتبرت العلوم الاجتماعية والإنسانية أداةً للكشف عن أسباب الاستغلال والاغتراب،
وسعت إلى تقديم رؤية نقدية تهدف إلى تحرير الإنسان من قيوده. بينما اعتمدت مدارس
أخرى على المنظور الأداتي، واعتبرت العلوم الإنسانية أداةً بيد متخذ القرار،
تساعده في حل المشكلات الاجتماعية.
ولكن، لا تزال مشكلة كبيرة تواجه الرأي العام،
وهي تصنيف العلوم الإنسانية على أنها أقل أهمية من العلوم الطبيعية. فالعديد من
الناس يرون العلوم الإنسانية كفروع نظرية خالية من الفائدة العملية. صحيح أننا قد
لا نرى مقالات صحفية تناقش اكتشافًا علميًا هائلاً في مجال علم الاجتماع أو
الاقتصاد، لكن هذا لا ينفي أهمية هذه العلوم في فهم الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
فالتطور الاجتماعي يحدث بشكل تدريجي، وغالبًا لا
نلاحظ تأثيره على حياتنا إلا بعد مرور فترة طويلة. وهنا يأتي دور العلوم
الإنسانية، فهي تُمدنا بتفسيرات منطقية وعقلانية لظواهر المجتمع، وتحررنا من
الأحكام الغيبية والمُشاعِرِة. فبدلاً من القول "انهارت الأخلاق"، أو "الأجيال
الجديدة فقدت قيمها"، يمكن للعلوم الإنسانية أن تُقدم تفسيرات علمية لِما نُشاهده من تحولات اجتماعية.
وفي عالمٍ يزداد فيه الترابط والتعقيد، تُصبح
العلوم الإنسانية ضروريةً لِمعالجة المشكلات المعقدة التي تواجه البشرية. فلمقاومة
الجريمة لا يكفي الأمن والقانون وحدهما، بل يلزم الاستعانة بعلم النفس وعلم
الاجتماع والتخطيط العمراني. وكذلك فإن تنفيذ سياسة صحية فعالة لا يقتصر على الطب
فقط، بل يتطلب التعاون مع الاقتصاد والإدارة والسياسة.
جدوى العلوم الإنسانية
وإن كان البعض يرى أن هذا دفاعٌ عن جدوى العلوم
الإنسانية، فإن الطالب الذي يبحث عن فرصة عمل قد لا يجد في هذه العلوم فرصة مباشرة
للعمل. لكن يجب أن نذكر أن التعليم العام لا يقتصر على إعداد الطلاب لسوق العمل
فقط، بل يهدف إلى تزويدهم بالمعرفة وتكوين وعيه.
ففي جميع الثقافات، يُعتبر التعليم العام منزهًا
عن الغرض المباشر، ويهدف إلى بناء الشخصية
المتكاملة، وصقل الذوق، وتربية الفكر. لذلك، نجد في المناهج التعليمية العامة
دراسة قصائد المتنبي، ومبادئ فيثاغورس، ومنطق أرسطو، وفلسفة ديكارت، وقصة لطه حسين.
ولو تم الحكم على هذه المواد بمعيار جدواها المباشرة في سوق العمل، لتخلصنا منها
جميعًا.
يُؤكد أوليفييه ريبول، فيلسوف التربية، على أن
هدف التعليم المدرسي هو توحيد وتحرير. توحيد الطلاب، وتأهيلهم للاندماج في
مجتمعهم، ومن هنا تأتي أهمية دراسة تاريخهم وجغرافيتهم. وتحرير الفرد بتكوين شخصيته المستقلة، وتزويده
بمعايير للحكم العقلاني على الأحداث.
ونتيجة لذلك، يصبح الفرد قادرًا على اختيار
مساره المهني بشكلٍ واعٍ ومُنظم. ويُصبح من الضروري أخذ هذه السمات في الاعتبار
عند صياغة وتعديل برامج التعليم الثانوي، والتركيز على أهمية العلوم الإنسانية في
تكوين شخصية متكاملة، تُمكنها من فهم العالم من حولها وتفاعل مع تحدياته بوعيٍ
وحكمة.
فالعلم الإنساني ليس مجرد مجموعة من المعارف
المجردة، بل هو مفتاح لفهم أنفسنا، وعلاقاتنا مع الآخرين، وعالمنا، وهو ضرورة ملحة
في عصرٍ يُعاني من التوتر والتباعد، يُشهد
تزايد التحديات والتعقيدات.