recent
أخبار ساخنة

### **«غير مرئية» لشيرين فتحي: لعبة المحو والكتابة في متاهة السرد**

الصفحة الرئيسية

 

### **«غير مرئية» لشيرين فتحي: لعبة المحو والكتابة في متاهة السرد**

 

في المشهد الروائي العربي المعاصر، الذي يتجه بشكل متزايد نحو استكشاف الأشكال التجريبية وتفكيك المسلّمات السردية، تبرز رواية «غير مرئية» للروائية المصرية شيرين فتحي، الصادرة عن دار «كتوبيا»، كعملٍ لافتٍ في جرأته وبنيته الفنية المعقدة. لا تقدم الرواية نفسها كحكاية تقليدية تتبع مسارًا خطيًا، بل هي أشبه بمتاهة فلسفية، ولعبة ذهنية معقدة تخوضها الكاتبة مع القارئ، حيث يصبح كل شيء موضع شك، بدءًا من وجود الشخصيات وصولًا إلى مصداقية السرد نفسه. إنها رواية عن الكتابة، وعن استحالة الكتابة في آن واحد، وعن الوجود الذي يتأرجح على حافة العدم.

في المشهد الروائي العربي المعاصر، الذي يتجه بشكل متزايد نحو استكشاف الأشكال التجريبية وتفكيك المسلّمات السردية، تبرز رواية «غير مرئية» للروائية المصرية شيرين فتحي، الصادرة عن دار «كتوبيا»، كعملٍ لافتٍ في جرأته وبنيته الفنية المعقدة. لا تقدم الرواية نفسها كحكاية تقليدية تتبع مسارًا خطيًا، بل هي أشبه بمتاهة فلسفية، ولعبة ذهنية معقدة تخوضها الكاتبة مع القارئ، حيث يصبح كل شيء موضع شك، بدءًا من وجود الشخصيات وصولًا إلى مصداقية السرد نفسه. إنها رواية عن الكتابة، وعن استحالة الكتابة في آن واحد، وعن الوجود الذي يتأرجح على حافة العدم.
### **«غير مرئية» لشيرين فتحي: لعبة المحو والكتابة في متاهة السرد**


### **«غير مرئية» لشيرين فتحي: لعبة المحو والكتابة في متاهة السرد**


  • تضعنا فتحي منذ العتبة الأولى للنص أمام جوهر لعبتها السردية، من خلال تنبيه استهلالي يهدم
  •  ببراعة العقد الضمني بين الكاتب والقارئ، وهو "الإيهام بالواقع". تقول الكاتبة: «هذه الرواية
  •  يحكيها الطفلان لو عاشا، وتحكيها الأم لو أنها أنجبتهما، وأحكيها أنا أحياناً». هذا الافتتاح ليس
  •  مجرد مقدمة، بل هو مفتاح فك شفرة العمل بأكمله. إنه إعلان صريح بأننا على وشك الدخول إلى
  •  عالم قوامه الاحتمال والافتراض

 عالم لا تكون فيه الشخصيات "غير حقيقية" فقط على مستوى الواقع الخارجي، بل قد تكون كذلك حتى داخل نسيجها التخييلي. بهذا، تُلغى الحدود بين الواقع والوهم، بين الحضور والغياب، وتصبح "اللايقينية" هي القاعدة الأساسية التي تحكم عالم الرواية.


**بنية تعدد الأصوات أم تعدد العدم؟**

 

تعتمد الرواية على تقنية تعدد الأصوات السردية (البوليفونية)، حيث تتناوب فصولها بين صوت الأم "عالية"، وصوت زوجها، وصوتي ابنيها، بالإضافة إلى صوت "الأنا" الساردة التي تطل برأسها أحيانًا لتزيد المشهد ضبابية.

  •  لكن هذه التقنية تُستخدم هنا بطريقة مغايرة؛ فالأصوات لا تتكامل لتقدم صورة متعددة الأوجه لحدث
  •  واحد، بل هي تتصارع وتتنافى، حيث يسعى كل صوت إلى تقويض وجود الصوت الذي يسبقه.
  •  فالشخصية التي تروي فصلها، قد يتم التشكيك في وجودها من الأساس في الفصل التالي، لتبدو وكأنها
  •  مجرد هلوسة أو اختراع في ذهن شخصية أخرى.

 

هذا الصراع الوجودي يجعل من كل شخصية "غير مرئية" بطريقة ما. هي حاضرة في سردها، غائبة في سرد الآخر. والسرد ذاته يتحول إلى عملية مستمرة من الإثبات ثم المحو، الكتابة ثم الكشط. وما يتم محوه لا يختفي تمامًا، بل يظل كأثر باهت، كشبح يطارد الصفحات، مما يخلق لدى القارئ حالة من القلق المعرفي والارتياب الدائم.

 وتلخص الرواية هذه الفلسفة في مقطع دال: «لأن الأم شعرت بالوحدة، قررت أن توهم نفسها أنها أنجبت، ولأن الطفل ظل وحيداً، اخترع له أخاً، ولأنني فكرت أن أتخلص من وحدتي، تخيلتهم جميعاً، وحكينا الحكاية». هنا، تصبح الوحدة هي المحرك الأول للخلق، ويصبح الخيال وسيلة للهروب من العدم، لكنه خيال لا يلبث أن يكشف عن زيفه.

 

**الكتابة التي تلتهم نفسها**

 

تتجسد هذه الفلسفة بشكل مركزي في شخصية الابن الأصغر، الذي ورث عن أمه موهبة الحكي، لكنه مصاب بلعنة فريدة: كل ما يكتبه يختفي. تتحول الكلمات التي يدونها على الورق، أو الجدران، أو حتى على جسده، إلى فراغ، تاركة وراءها صفحات بيضاء.

  1.  إنه كاتب بلا دليل مادي على كتابته، مؤلف بلا أعمال. هذه الغرائبية ليست مجرد حيلة فنية، بل هي
  2.  استعارة مكثفة عن فعل الكتابة في الرواية كلها؛ كتابة تولد لتُمحى، لتؤكد على هشاشة الوجود وزواله
  3. وتأتي الصدمة الكبرى حين يخبره شقيقه الأكبر بأنه لم يؤلف هذه القصص أصلًا، بل هي قصص أمه
  4.  التي كان يستمع إليها ويدونها دون وعي، ولهذا تختفي، لأنها ليست نابعة من ذاته الأصيلة. هنا
  5.  تتفكك فكرة المؤلف الأوحد، وتصبح الأصالة مجرد وهم آخر.

 

**دوائر السرد المغلقة**

 

تتخذ الرواية بنية دائرية معقدة. فالأم "عالية" لديها طفلان، أحدهما مؤلف والآخر لا. وهذا النمط يتكرر بحذافيره مع الابن الأصغر الذي يتزوج فتاة تحمل الاسم نفسه "عالية"، وينجبان أيضًا طفلين بنفس المواصفات. هذا التكرار ليس مجرد مصادفة، بل هو تأكيد على أن الحكاية تعيد نفسها في حلقة مفرغة، وأن الشخصيات سجينة أقدار متوارثة، وكأنهم نسخ من قصة قديمة. هذا الشعور بالدائرية يتعزز بنهاية الرواية التي تحمل رقم الفصل "0"، وهو نفس الرقم الذي استُهلت به في الإهداء: «مني إلى عالية، والعكس.

  •  كلانا يحمل الرقم صفر... هو حلقة الوصل بين النهاية والبداية». الصفر هنا ليس عدمًا، بل هو الدائرة
  •  المغلقة، نقطة العودة الأبدية التي تجعل النهاية بداية جديدة، وتجعل من المستحيل تحديد أيهما "عالية"
  •  الأصلية وأيهما الصدى، أو ما إذا كانتا مجرد وهمين متداخلين.

 

**سخرية لاذعة من المشهد الأدبي**

 

لا تكتفي الرواية بتفكيك ذاتها، بل توجه نقدًا ساخرًا ولاذعًا للمشهد الأدبي والثقافي. تسخر شيرين فتحي من هالة القداسة التي تحيط بالكاتب الكبير، فتصوره في أحد المشاهد وكأنه قرد في قفص يُعرض على جماهير القراء، في هجاء مرير لفكرة الشهرة وتحويل الأدب إلى سلعة استهلاكية. وفي مشهد آخر، تصور سباقًا للمؤلفين يجرون فيه على أربع، والفائز ليس الأسرع وصولًا، بل الأخير، في قلب عبثي لمفهوم النجاح الأدبي.

  1.  وتبلغ السخرية ذروتها في مشهد الكاتب الشاب الذي يطلب منه كاتبه المفضل أن يحل محل مزهرية
  2.  مكسورة على مكتبه، فيستجيب الشاب ويظل منحنيًا لساعات بينما يضع الكاتب الكبير الورود في
  3.  "قفاه"، في تجسيد قاسٍ للعلاقات الاستغلالية والتسلطية داخل الوسط الأدبي.

 

**مأساة المرأة الكاتبة**

 

خلف هذه البنية التجريبية، يكمن صوت إنساني عميق يتجلى في شخصية "عالية" الأم، التي تجسد مأساة المرأة المبدعة في مجتمع ذكوري. تعاني "عالية" من تلصص زوجها على كتاباتها، الذي يقرأ نصوصها ليس كفن، بل كاعترافات شخصية، ويسقط شخصياتها على حياتها الواقعية، محاصرًا إياها في سجن من التأويلات الخاطئة.

  •  تتأرجح مشاهدها بين التراجيديا المؤلمة والسخرية السوداء، وتستعرض صراعها مع فكرة الأمومة
  •  التي قد تتعارض مع مساحتها الإبداعية. قرارها النهائي بالتوقف عن الكتابة، بل وعن الخيال نفسه
  •  هو قرار مأساوي يحمل دلالات متعددة؛ فهو إما استسلام للهزيمة، أو ربما هو فعل مقاومة أخير
  •  حيث تختار الصمت والغياب كوسيلة للحفاظ على ما تبقى من ذاتها.

 

في الختام

 يمكن القول إن رواية «غير مرئية» هي أكثر من مجرد قصة؛ إنها "ميتا-رواية" (Metanarrative) تتأمل في طبيعة السرد وحدوده. هي عمل شجاع ومقلق، لا يقدم إجابات سهلة، بل يغرق القارئ في بحر من الأسئلة حول الوجود والذاكرة والهوية وفعل الخلق.

 عبر لعبة المحو والكتابة، والظهور والاختفاء، تقدم شيرين فتحي رواية تفكيكية بامتياز، تترك أثرًا عميقًا في نفس القارئ، الذي يخرج منها مدركًا أنه كان شريكًا في بناء وهدم هذا العالم الهش، وغير المرئي.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent