recent
أخبار ساخنة

### **«حشرات سوداء» لعلي حسن: عندما يغوص السرد في أعماق النفس الأنثوية**

الصفحة الرئيسية

 

### **«حشرات سوداء» لعلي حسن: عندما يغوص السرد في أعماق النفس الأنثوية**

 

في المشهد الأدبي العربي المعاصر، الذي تتعدد فيه الأصوات وتتشابك الرؤى، يأتي الكاتب المصري علي حسن ليقدم في مجموعته القصصية الجديدة «حشرات سوداء»، الصادرة عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، عملاً يتميز بنضج فني لافت وقدرة فريدة على ارتياد عوالم شائكة، غالباً ما تكون عصية على السرد، خاصة حين تأتي من منظور رجل يكتب عن المرأة.

في المشهد الأدبي العربي المعاصر، الذي تتعدد فيه الأصوات وتتشابك الرؤى، يأتي الكاتب المصري علي حسن ليقدم في مجموعته القصصية الجديدة «حشرات سوداء»، الصادرة عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، عملاً يتميز بنضج فني لافت وقدرة فريدة على ارتياد عوالم شائكة، غالباً ما تكون عصية على السرد، خاصة حين تأتي من منظور رجل يكتب عن المرأة.
### **«حشرات سوداء» لعلي حسن: عندما يغوص السرد في أعماق النفس الأنثوية**


### **«حشرات سوداء» لعلي حسن: عندما يغوص السرد في أعماق النفس الأنثوية**


  •  لا يقدم حسن مجموعة من القصص المتفرقة، بل ينسج عملاً متكاملاً يقوم على "وحدة الموضوع"
  •  (Thematic Unity)، وهي تقنية تتطلب براعة فائقة للحفاظ على اهتمام القارئ دون الوقوع في
  •  فخ التكرار. يتخذ من هموم المرأة وتجلياتها النفسية والعاطفية محوراً مركزياً تدور في فلكه كل
  •  الحكايات العشر، مقدماً شهادة أدبية عميقة على معاناة "حواء" في مواجهة واقع قاسٍ ومجتمع
  •  ضاغط.

#### **فسيفساء من الألم والبحث عن الذات**

 

إن أول ما يلفت الانتباه في «حشرات سوداء» هو ابتعادها عن السرديات الكبرى والبطولات الصارخة. بدلاً من ذلك، يختار علي حسن الغوص في التفاصيل اليومية الدقيقة، تلك اللحظات الصامتة التي تشكل جوهر الوجود الإنساني. كل قصة هي بمثابة بورتريه نفسي لشخصية نسائية في مرحلة مفصلية من حياتها. نحن أمام فسيفساء من الشخصيات التي قد تختلف في ظروفها الاجتماعية والمراحل العمرية، لكنها تتشارك في إحساس عميق بالهشاشة والمعاناة والبحث المضني عن لحظة صفاء أو بهجة وسط مرارة الأيام.

 

  • هناك المرأة التي ينتهي زواجها "دون ضجيج"، كما يصف الكاتب، من طبيب فاشل، في قصة ترصد
  •  التآكل البطيء للعلاقات وتحول الحب إلى مجرد عادة باهتة. وهناك الأرملة التي تتشبث بذكريات
  •  زوجها الراحل، فتتحول مفردات بيتها اليومية، مثل المزهريات، إلى أشباح وكيانات حية تستحضر
  •  الماضي وتزيد من وحشة الحاضر.

 وفي قصة أخرى، نجد امرأة تربط مصيرها الوجودي بشجرة وحيدة في العراء، في استعارة بليغة عن الوحدة والأمل اليائس. كما يقدم الكاتب بجرأة مؤلمة شخصية امرأة تعاني من آثار العنف الجسدي الذي لم يترك ندوباً على جسدها فحسب، بل التهم أنوثتها وسحق روحها.

 

  1. هذه النماذج ليست مجرد حالات فردية، بل هي تمثيلات رمزية لمآزق وجودية أكبر، حيث تتجلى
  2.  قسوة الواقع في أشكال متعددة: الخذلان العاطفي، الفقد، الوحدة، العنف، وضغط التقاليد. إن براعة
  3.  حسن تكمن في قدرته على تجاوز السطح الاجتماعي لهذه الأزمات ليلامس جوهرها النفسي العميق
  4.  مقدماً سردية شعورية تنفذ إلى روح المرأة وتكشف عن طبقات معقدة من المشاعر التي يصعب
  5.  التعبير عنها.

 

#### **تجاوز "النظرة الذكورية" إلى تعاطف إنساني شامل**

 

يبقى التحدي الأكبر أمام أي كاتب رجل يتناول عالم المرأة هو كيفية تجنب الوقوع في فخ "النظرة الذكورية" (Male Gaze)، التي غالباً ما تقدم المرأة ككائن نمطي أو موضوع للرغبة أو الشفقة. ينجح علي حسن بامتياز في تجاوز هذا التحدي، فهو لا يكتب "عن" المرأة بقدر ما يكتب "من خلالها". يبدو وكأنه يتقمص شخصياته

  •  ويمنحها صوتاً داخلياً صادقاً ومفعماً بالحياة. هذا التعاطف ليس مجرد موقف أخلاقي، بل هو أداة فنية
  •  تسمح له باستكشاف المناطق الرمادية في النفس البشرية. إنه لا يقدم أحكاماً، بل يرصد ويرسم بعين
  •  فنان حساس، تاركاً للقارئ مساحة للتأمل والتفاعل مع مصائر شخصياته. هذا الإنجاز يضع
  •  المجموعة في مصاف الأعمال التي تحتفي بالإنسانية المشتركة، مؤكداً أن الألم والفقد والأمل هي
  •  مشاعر تتجاوز حدود النوع الاجتماعي.

 

#### **«حشرات سوداء» استعارة القلق الوجودي**

 

عنوان المجموعة «حشرات سوداء» هو مفتاح أساسي لفهم عالمها الفني. لا يشير العنوان إلى كائنات مزعجة بمعناها المادي المباشر، بل هو استعارة مكثفة ومبتكرة للخوف والقلق والرؤى السوداوية التي تأكل الروح من الداخل.

  1.  هذه "الحشرات" هي الأفكار الوسواسية، هي الذكريات المؤلمة التي تطن في الرأس بلا هوادة، هي
  2.  الشعور باللاجدوى الذي يجعل الشخصيات تنسحب من العالم الخارجي وتلوذ بعوالم داخلية كانت
  3.  تتصورها آمنة، لتكتشف أنها هي الأخرى محاصرة. إنها رمز لذلك الفزع الصامت الذي يصعب
  4.  تسميته، والذي يحول الحياة اليومية إلى كابوس هادئ.

 

#### **شعرية المكان ودوره في تكثيف الحصار**

 

يلعب المكان دوراً محورياً في بناء عوالم القصص، حيث لا يكون مجرد خلفية للأحداث، بل يتحول إلى شخصية فاعلة تعكس الحالة النفسية للأبطال وتزيد من شعورهم بالاختناق. البيوت ليست ملاذات آمنة، بل هي أقفاص تحتجز ذكريات مؤلمة.

  •  المدينة ليست فضاءً للفرص، بل هي غابة من الإسمنت واللامبالاة. يتجلى هذا بوضوح في الوصف
  •  الذي يقدمه أحد الأبطال للمدينة والبحر: «بحر عميق، شاطئ ملعون، غيوم، أفواج من الصيادين
  •  فضاء أسود». هذا الوصف ليس مجرد تصوير جغرافي، بل هو إسقاط للحالة الداخلية للشخصية على
  •  محيطها الخارجي، حيث يصبح العالم كله مرآة لسوداوية الروح.

 

#### **الإهداء مفتاح الحزن النبيل**

 

يأتي إهداء المجموعة لافتاً ومؤثراً، وهو لا يعمل كعتبة نصية تقليدية، بل كقصة قصيرة مكثفة تمهد للجو العام للعمل بأكمله. يقول المؤلف: «ستة وثلاثون عاماً عمر الغياب، أصنع من الترقب ملحمة بائسة، أنتظر عودتك في المساء فلا تجيء. 

  1. أبي، ما زال زئيرك على سريرك يضرب مسامعي. أسد نادر يرفض الرحيل وهو يصارع الموت
  2.  ليدافع عن عرينه...». هذا الإهداء الشخصي العميق، الذي يخلط بين الفقد الأبوي وصورة الأسد الذي
  3.  يصارع من أجل البقاء، يضع القارئ مباشرة في قلب ثيمات المجموعة: الغياب، الانتظار العبثي،
  4.  الذاكرة المؤلمة، والصراع المرير ضد الفناء. إنه يربط بين وجع الكاتب الشخصي والوجع الإنساني
  5.  العام الذي تستعرضه قصصه، مانحاً العمل بأكمله طبقة إضافية من الصدق والحرارة.

 

#### **الختام**

 

«حشرات سوداء» ليست مجرد مجموعة قصصية أخرى، بل هي عمل فني متماسك وناضج، يثبت أن الأدب العظيم هو الذي يجرؤ على الغوص في أكثر مناطق النفس البشرية ظلمة وتعقيداً، ليخرج منها بلآلئ من الحكمة والجمال. استطاع علي حسن أن يقدم صوتاً للمرأة من منظور إنساني شامل، مستخدماً لغة شعرية مكثفة وقدرة فذة على بناء استعارات بصرية ونفسية عميقة.

 إنه عمل يستحق القراءة والتأمل، ليس فقط لمتعته السردية، بل لأنه يترك في نفس القارئ أثراً عميقاً ويطرح أسئلة وجودية حول طبيعة الألم والقدرة البشرية على التحمل والمقاومة، ولو بالصمت.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent