## الماركسية وعلم الاجتماع: نظرة غربية على المجتمعات الشرقية
تعد دراسة المجتمعات الشرقية من خلال عدسة الفكر
الغربي مسألة معقدة تتطلب تحليلًا دقيقًا وحرصًا على تجنب التعميمات والأحكام
المسبقة. ففي سياق تشكيل فهمنا للمجتمع الحديث، لعبت النظريات السوسيولوجية دورًا
محوريًا، خاصة تلك التي تنسب لعملاقي الفكر، كارل ماركس وماكس فيبر. إلا أن هذه
النظريات غالبًا ما ظلت مقيدة بالمنظور الأوروبي المركزي، مما أدى إلى تشويه صورة
المجتمعات الشرقية وإعادة صياغتها وفقًا لأطر مفاهيمية غربية.
## الماركسية وعلم الاجتماع: نظرة غربية على المجتمعات الشرقية
مقدمة
يقدم لنا كتاب "ماركس وفيبر... المجتمعات
الشرقية بعيون الحداثة الغربية" للباحث التركي لطفي سونار دراسة مهمة حول هذه
القضية، حيث يفحص تصورات ماركس وفيبر عن المجتمعات الشرقية، ويسلط الضوء على
الأصول التاريخية والثقافية لهذه النظريات، فضلاً عن الآثار المترتبة على هذه
النظرة الغربية في فهمنا للمجتمعات الشرقية.
يُسلط سونار الضوء على واقع أن الهدف الأساسي من ظهور علم الاجتماع في القرن
التاسع عشر كان فهم وتفسير ظاهرة المجتمع الحديث، الذي برز في الغرب خلال تلك
الفترة. وقد أدرك المفكرون الغربيون ضرورة مقارنة هذا المجتمع "المتطور"
مع ما اعتبروه "مجتمعات بدائية" أو "مجتمعات متخلفة". فجاء
الشرق كنموذج مضاد للتعريف والتمييز، مما
أدى إلى تشكيل نظرة غربية محددة عن تلك المجتمعات.
تركيز ماركس
ركز ماركس على فهم الآثار المحتملة للتطورات
العالمية على الثورة الأوروبية المأمولة، ولهذا اهتم بالهند والصين وروسيا والبلاد
الخاضعة للحكم العثماني آنذاك، لجهة تأثيرهم المحتمل على التوازن الأوروبي. اعتقد
ماركس أن التطورات المهمة لمستقبل البشرية تحدث في المجتمع الحديث، وبالتالي يستحق
الآخرون اهتمامًا وبحثًا لجهة مدى تأثيرهم على ذلك المجتمع.
وعلى الجانب الآخر، استخدم ماركس الشرق كأداة
ذرائعية لتعريف الغرب، وركز على "نمط الإنتاج الآسيوي" كنموذجٍ لمجتمعٍ
متخلفٍ غير قادر على التطور. اعتبر أن المجتمعات الشرقية عالقة في نظامٍ زراعيٍّ
تقليديٍّ، مع وجود سلطة مركزية قوية تستغل
العمل الزراعيّ لصالحها.
أما ماكس فيبر فحلل المجتمعات الشرقية في سياق
بحث الأخلاقيات الاقتصادية لأديان العالم، محاولًا تحديد العوامل التي أدت إلى
ظهور المجتمع الحديث في الغرب. درس المجتمعات الصينية والهندية وبلاد ما بين
النهرين، وأجرى تحليلات متفرقة للمجتمعات الإسلامية، مستفيدًا من مصادر استشراقية راسخة.
ويركز فيبر على مفهوم "الباتريمونيالية"
كنموذجٍ لشرح المجتمعات الشرقية. ويُعرف
الباتريمونيالية بأنها نظامٌ سياسيٌّ يعتمد على السلطة الوراثية والولاء
الشخصي، وتُعتبرُ سلطةُ الحاكمِ مُقدسةً
وتُسندُ إلى اللهِ أو القضاءِ الإلهي.
يلاحظ سونار أن كلا من ماركس وفيبر، برغم
اختلافهما في العديد من النقاط، اتفقا في اعتبارهما المجتمعات الشرقية نموذجًا
مضادًا يوضح غرابة المجتمع الغربي الحديث.
فهما تشاركان في فهم "الآخر" كشكلٍ معاكسٍ للذات، مما يدفعنا إلى إعادة النظر في تحليلاتهما من
منظور نقدي.
أمثلة
ومن الأمثلة على ذلك، تصور ماركس "الاستبداد
الشرقي" كعاملٍ رئيسيٍّ يُعطل التطور الاقتصادي في المجتمعات الشرقية، معتبراً أن
الظروف الاقتصادية في الشرق تُحدّدها الميول السياسية الاستبدادية.
ويُظهر سونارُ أن فيبرَ تجاهلَ بعض القواعد
الأساسية لسوسيولوجيا التأويل الخاصة به، وبدلاً من تحليل المجتمعات الشرقية وفقاً
لشروطها ومعانيها الخاصة، فحصها من منظور غربي،
مُستخدِمًا مصادر انتقائية بطريقة تضمنت مفارقات تاريخية.
ويسأل سونار عما إذا كان تركيز ماركس وفيبر على
تحليل المجتمعات الشرقية من منظور غربي قد أدى إلى تجاهل بعض جوانبها المهمة، وإلى إخفاء دور العوامل الثقافية والاجتماعية
في تشكيل تلك المجتمعات.
ويُشير سونارُ إلى أنَّ ماركسَ وفيبرَ لم ينجحا
في تجاوز التصور الأوروبي المركزي، فإنّ
تحليلاتهما لمجتمعاتٍ أخرى قد غُلبَ عليها الطابعُ الغربيُّ والشوفيني.
تحليلات ماركس
ويؤكد الكتاب على أنَّ تحليلاتِ ماركسَ وفيبرَ
لمجتمعاتٍ مثلِ الصينِ والهندِ وروسيا كانت تفتقرُ إلى العمقِ والشموليةِ. فقد اعتمدا على مصادر استشراقية غير
مُستقلةٍ، ونظرتا إلى تلك المجتمعات من
خلال عدسة "الآخر" الذي يحتاج
إلى أن يُحدّدُ و يُفسّرُ من خلالِ المفهومِ الغربي.
يُلقي الكتابُ الضوءَ على الحاجةِ إلى إعادةِ
النظرِ في نظرياتِ ماركسَ وفيبرَ، وإلى إعادةِ تقييمِها من خلالِ منظورٍ نقديٍّ
يأخذُ في الاعتبارِ التنوعَ الثقافيَّ والاجتماعيَّ للمجتمعاتِ الشرقيةِ. فإنّ النظرَ إلى تلك المجتمعاتِ من خلالِ عدسةِ "الآخر" يُسهمُ في تعميقِ الفهمِ
الخاطئِ عنها، ويُعزّزُ صورةَ "الشرقِ" كِمجتمعٍ متخلفٍ وغيرِ قادرٍ على التطورِ.
ويؤكد سونار على ضرورة البحث عن فهمٍ أكثرِ شموليةً ودقةً للمجتمعات الشرقية، واستخدامِ مصادرٍ أكثَرَ
مصداقيةً وأقلِ تحيزًا. فإنّ استمرارَ الاعتمادِ على النظرياتِ
الغربيةِ دونَ نقدهمِ سيؤدي إلى تعميقِ
الفهمِ الخاطئِ للمجتمعاتِ الشرقيةِ
وإلى التحيزِ ضدِها.
الختام
وفي الختام، يشير الكتاب إلى ضرورة تجاوز
التمييز بين الشرق والغرب، والنظر إلى كل ثقافة
ومجتمع ككيان مستقل
له خصائصه وتاريخه
وثقافته المميزة. فإنّ البحث عن
فهمٍ أكثرِ شموليةً ودقةً
للمجتمعات الشرقية سيؤدي إلى
تعزيزِ الحوارِ الثقافيِ
والفهمِ المُتبادَل بين
الشعوبِ والثقافاتِ المختلفة.