## "فرصة العيش": تأملات فلسفية في فن الحياة مع أندريه كونت-سبونفيل
في رحاب الفلسفة، حيث
تتلاقى الأسئلة الوجودية مع سعي الإنسان الدائم للمعنى، يطل علينا المفكر
والفيلسوف الفرنسي البارز أندريه كونت-سبونفيل بإصداره الأخير "فرصة العيش،
دراسات أخيرة" (La Chance de Vivre, dernières études). هذا الكتاب، الصادر عن المنشورات الجامعية الفرنسية (PUF) في عام 2025، لا يمثل مجرد إضافة إلى رصيد المؤلف الغني، بل
يشكل محطة هامة في مسيرته الفكرية، حيث يعود إلى جذور الفلسفة الكلاسيكية ليناقش
قضايا جوهرية تلامس صميم الوجود الإنساني.
![]() |
## "فرصة العيش": تأملات فلسفية في فن الحياة مع أندريه كونت-سبونفيل |
يتألف الكتاب من تسع
دراسات متعمقة، تتناول مواضيع متنوعة من تاريخ الفلسفة، إلا أنها تشترك في هدف
واحد: استكشاف معنى الحياة، وفهم الموت، واكتشاف السبل التي تمكننا من عيش حياة
أكثر سعادة ومعنى. يعتمد كونت-سبونفيل في تحليلاته على قراءات معمقة لنصوص فلاسفته
المفضلين، بدءًا من أبيقور والرواقيين، مرورًا بميشيل دو مونتاني وباروخ سبينوزا،
وصولًا إلى ألان ولويس ألتوسير ومارسيل كونش. من خلال هذه النصوص، يقدم لنا
الفيلسوف الفرنسي وجهة نظر فريدة تجمع بين التراث الفلسفي العريق والتحديات التي
تواجه الإنسان المعاصر.
**فرصة العيش سؤال يطرح نفسه**
ينطلق الكتاب من سؤال
وجودي عميق: هل نرغب حقًا في الاستمرار في الحياة؟ وهل نمتلك الشجاعة لاتخاذ قرار
بإنهاءها؟ يرى كونت-سبونفيل في هذا السؤال فرصة يجب اغتنامها لمواصلة العيش بكل ما
فيه من جمال وصعوبات. فالإنسان، كما يوضح الفيلسوف، لن يستطيع طرح هذا السؤال إلا
إذا كان حيًا، وهذا يعني أن فرصة العيش تسبق كل شيء آخر، وتستحق منا كل عناية
واهتمام.
- يعود كونت-سبونفيل إلى مقولة مونتاني الشهيرة
- بأن الفلسفة لا تعلمنا الموت
- بل تعلمنا فن الحياة. فالفلسفة، في نظره،
- مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحب والسعادة والحقيقة والحرية
- وهي تسعى إلى تحريرنا من الحزن والقلق والأوهام
- التي تعيق طريقنا نحو السعادة.
- وإذا كانت الفلسفة لا تساعدنا في الإجابة على سؤال كامو
- "هل الحياة تستحق أو لا تستحق أن تعاش؟"، فما هي قيمتها إذن؟
**الموت في مرآة الفلسفة**
يخصص كونت-سبونفيل
جزءًا هامًا من كتابه لمناقشة مسألة الموت من خلال تحليل نصوص الأبيقوريين
والرواقيين. ففي فلسفة أبيقور، التي تعتبر الهدوء واللا هوى غاية الحياة، يمثل
الخوف من الموت أحد العوائق الرئيسية التي تمنع الإنسان من التمتع بحياته. ويعزو
أبيقور هذا الخوف إلى المعتقدات الدينية التي تتحدث عن العقاب في الآخرة. لذلك،
يحاول الفيلسوف اليوناني شرح طبيعة الموت، مؤكدًا أننا حين نموت، لا ندرك موتنا،
وأن الموت هو نهاية الوعي والأحاسيس، ولا يمكن أن يكون مؤلمًا. فالخوف من الموت،
في نظر أبيقور، هو سبب تعاستنا، وإذا استطعنا التغلب عليه، أمكننا أن نكون سعداء.
- أما الرواقيون، فيرون أن الموت جزء طبيعي من دورة الحياة
- وأن علينا تقبله بشجاعة وثبات.
- فهم يدعوننا إلى التفكير في الموت بانتظام
- لا لإثارة الحزن والقلق
- بل لتقدير قيمة الحياة
والاستعداد لمواجهة الموت بسلام.
**مونتاني فن العيش بحكمة**
يتوقف كونت-سبونفيل
أيضًا عند كتابات ميشيل دو مونتاني، وخاصة تأملاته في الموت، التي تعلمنا أن
التفكير في الموت يساعدنا في تقدير الحياة والعزلة. فمونتاني، الذي عاش في عصر
مضطرب شهد حروبًا دينية وأوبئة، كان يؤمن بأهمية العيش بحكمة والتمتع باللحظة الحاضرة. كان يدعو إلى التسامح والاعتدال والابتعاد عن التعصب والتطرف. فالفلسفة،
في نظره، ليست مجرد مجموعة من الأفكار المجردة، بل هي فن العيش بحكمة في عالم مليء
بالتحديات والصعوبات.
**سبينوزا المادية والفرح**
يخصص كونت-سبونفيل دراسة هامة لفلسفة باروخ سبينوزا، الفيلسوف الهولندي الذي عاش في القرن السابع عشر. يركز كونت-سبونفيل على الجانب المادي من فلسفة سبينوزا، مؤكدًا أن سبينوزا كان يؤمن بأن الإنسان جزء من الطبيعة
- وأن العقل والجسد ليسا منفصلين
- بل هما وجهان لعملة واحدة.
- وكان سبينوزا يرى أن السعادة الحقيقية
- تكمن في فهم قوانين الطبيعة والعيش وفقًا لها.
- وكان يدعو إلى التحرر من الخوف والقلق والتحلي بالشجاعة
والعقلانية.
**ألان ومارسيل كونش الموسيقى والحكمة التراجيدية**
يتناول كونت-سبونفيل في
كتابه أيضًا أفكار الفيلسوف الفرنسي ألان (إميل أوغست شارتييه) وعلاقته بالموسيقى،
مؤكدًا أن الموسيقى جزء من الطبيعة، وأن قوانين الانسجام الموسيقي تخضع لقوانين
الفيزياء. ويشير كونت-سبونفيل إلى أن ألان كان يؤمن بأن الموسيقى تعبر عن طريقة فريدة
وإنسانية للوجود في العالم.
- كما يتوقف كونت-سبونفيل عند أفكار
- أستاذه مارسيل كونش ومفهومه "للحكمة التراجيدية"
- أي حكمة تقبل الحياة كما هي، بكل ما فيها من سعادة وشقاء
- ونجاح وفشل، وحكمة تقبل التحولات والمعاناة والموت.
- فالحكمة التراجيدية، في نظر كونش
- هي الحكمة الحقيقية التي
تمكننا من مواجهة الحياة بشجاعة وثبات.
**الفلسفة كفن للعيش**
يؤكد كونت-سبونفيل في
كتابه على أن الفلسفة ليست مجرد نمط من التفكير المجرد، بل هي فرصة متاحة للجميع
للعيش والتفكير في الحياة بدل الموت. فالفلسفة، في نظره، هي فن العيش وفقًا
للظروف، وهي سبيل من سبل إبداع الذات. وهي موجهة للإنسانية جمعاء، لأنها عبارة عن
مخاطبة للحياة وتبديد لكل الأوهام والهلوسات والعوائق التي تفصلها عن السعادة.
**قدامى وجدد حوار الأجيال**
يصف كونت-سبونفيل كتابه "فرصة العيش" بـ "الدراسات الفلسفية الأخيرة"، وكأنه أراد إغلاق باب الأبحاث الأكاديمية التي كرسها لتحليل تاريخ الفلسفة وأفكار الفلاسفة العظام.
- ففي هذا الكتاب، يقيم كونت-سبونفيل
- حوارًا وديًا وسهلًا مع نصوص مونتاني وسبينوزا ونيتشه
- وألان وغيرهم، ليشاركنا تجربته الشخصية في فهم الحياة واكتشاف
السعادة.
**رسالة إلى الإنسانية**
يمكن القول
إن كتاب "فرصة العيش" لأندريه كونت-سبونفيل هو كتاب مشرق يعرض الحياة
كفرصة وكمعركة في آن واحد، ويعرض الفلسفة كأداة تساعدنا في اغتنام هذه الفرصة. فالفلسفة
ليست دواءً سحريًا ولا ضمانة ضد الأزمات، بل هي "فن العيش بمرونة وتكيف مع
تقلبات الحياة" وقبول ما هو حتمي فيها كالخوف والمرض والفقدان. فاقتراب
الموت، كما يقول كونت-سبونفيل، يدفعنا إلى الاستمتاع بالحياة بغية محبتها
والاستمتاع بها أكثر.
الختام
بهذا، يظل أندريه كونت-سبونفيل
صوتًا فلسفيًا فريدًا في المشهد الفكري الفرنسي المعاصر، من حيث دعوته إلى فلسفة
وحكمة عملية، غير متعالية، تسعى إلى تحقيق السعادة الممكنة هنا والآن، بعيدًا من
أوهام المستقبل غير المؤكدة. إنه دعوة إلى احتضان الحياة بكل ما فيها، وإلى
التفكير في الموت لا للخوف منه، بل لتقدير قيمة كل لحظة نعيشها. "فرصة العيش"
ليس مجرد كتاب، بل هو رفيق في رحلة البحث عن المعنى والسعادة.