recent
أخبار ساخنة

### **إعادة اكتشاف عبقرية ابن خلدون: قراءة معمّقة في فلسفته الاجتماعية عبر كتاب جوستون بوتول**

الصفحة الرئيسية

 

### **إعادة اكتشاف عبقرية ابن خلدون: قراءة معمّقة في فلسفته الاجتماعية عبر كتاب جوستون بوتول**

 

في خضم تدفق المعرفة الإنسانية وتراكمها عبر العصور، تبرز أسماء قليلة كنقاط تحول جذرية، لا يقتصر أثرها على زمنها، بل يمتد ليؤسس لعلوم جديدة ويفتح آفاقًا لم تكن مطروقة. من بين هؤلاء العمالقة، يقف العلامة العربي عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م) شامخًا، ليس فقط كمؤرخ فذّ، بل كمؤسس حقيقي لما نعرفه اليوم بـ "علم الاجتماع"

في خضم تدفق المعرفة الإنسانية وتراكمها عبر العصور، تبرز أسماء قليلة كنقاط تحول جذرية، لا يقتصر أثرها على زمنها، بل يمتد ليؤسس لعلوم جديدة ويفتح آفاقًا لم تكن مطروقة. من بين هؤلاء العمالقة، يقف العلامة العربي عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م) شامخًا، ليس فقط كمؤرخ فذّ، بل كمؤسس حقيقي لما نعرفه اليوم بـ "علم الاجتماع".
### **إعادة اكتشاف عبقرية ابن خلدون: قراءة معمّقة في فلسفته الاجتماعية عبر كتاب جوستون بوتول**


### **إعادة اكتشاف عبقرية ابن خلدون: قراءة معمّقة في فلسفته الاجتماعية عبر كتاب جوستون بوتول**


  •  ورغم أن عبقريته ظلت لقرون طي النسيان في الفكر الغربي، فإن القرن العشرين شهد إعادة
  •  اكتشاف مذهلة لأفكاره، وكان لعالم الاجتماع الفرنسي جوستون بوتول دور محوري في هذه
  •  النهضة المعرفية. ومع صدور طبعة جديدة من كتابه الكلاسيكي "ابن خلدون – فلسفته
  •  الاجتماعية" عن دار "أقلام عربية" بالقاهرة، بترجمة غنيم عبدون، تتجدد الفرصة للغوص في
  • أعماق هذا الفكر الثوري الذي سبق عصره بقرون.

#### **من مؤرخ الأحداث إلى عالم الظواهر الاجتماعية**

 

يبدأ بوتول تحليله من النقطة التي انطلق منها ابن خلدون نفسه: التاريخ. يؤكد بوتول على حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن ابن خلدون كان في المقام الأول مؤرخًا من الطراز الرفيع. فكما يذكر في كتابه، "لولا ما كتب ابن خلدون في التاريخ لجهلنا اليوم ما كان عليه تاريخ أفريقيا الشمالية منذ الفتح الإسلامي حتى القرن الرابع عشر". 

  • لكن ما ميّز ابن خلدون عن سابقيه ومعاصريه هو أنه لم يكتفِ بسرد الوقائع وتسجيل سير الملوك
  •  والدول، بل سعى إلى فهم القوانين الخفية التي تحكم حركة المجتمعات البشرية. لقد نظر إلى التاريخ
  •  ليس كقصص متفرقة، بل كمختبر ضخم تتجلى فيه "ظواهر طبيعية" قابلة للدراسة والتحليل.

 

هذا الانتقال من السرد إلى التحليل هو جوهر العبقرية الخلدونية. ففي مقدمته الشهيرة لكتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر"، والتي فاقت شهرتها الكتاب الأصلي، أسس ابن خلدون لعلم جديد أطلق عليه "علم العمران البشري".

 لقد أدرك أن المجتمعات، سواء كانت بدوية أم حضرية، تخضع لنواميس وقواعد ثابتة تشبه في طبيعتها قوانين الفيزياء أو البيولوجيا. هذا المنظور المادي والعلمي هو ما جعل بوتول يرى فيه الأب الروحي لعلم الاجتماع الحديث، سابقًا بذلك أوغست كونت وإميل دوركايم بقرون طويلة.

 

#### **تأثير البيئة والمادة تفكيك الخصائص النفسية للشعوب**

 

أحد أبرز المحاور التي يتناولها بوتول في كتابه هو تحليل ابن خلدون العميق لأسباب تشكّل طبائع الشعوب وخصائصها النفسية. في عصر كانت تسود فيه التفسيرات الغيبية أو العرقية، قدم ابن خلدون طرحًا ماديًا جريئًا ومبتكرًا. لقد رفض فكرة وراثة الخصائص السيكولوجية، مؤكدًا أنها مكتسبة بالتعليم والتربية، وتتجذر وتثبت بفعل البيئة المادية المحيطة.

 

  1. يطرح ابن خلدون سؤالاً جوهريًا: ما الذي يكوّن طابع شعب ما؟ ويجيب بأن "المناخ" و"نوعية
  2.  الغذاء" لهما أثر حاسم. ويستشهد بأمثلة حية من ملاحظاته الدقيقة، فيقارن بين أهل مصر وأهل
  3.  المغرب. يرى أن الأجواء الحارة والجافة في مصر، ووفرة النيل، تجعل أهلها يميلون إلى المرح
  4.  وخفة الروح وعدم الادخار للمستقبل

 فهم لا يخشون نفاد أقواتهم. على النقيض تمامًا، فإن الأجواء الباردة والرطبة في مدينة مثل فاس المغربية، المحاطة بالهضاب، تجعل سكانها أكثر جدية وحذرًا، وتدفعهم إلى ادخار مؤونة تكفيهم لسنوات، كنوع من التحوط ضد تقلبات الطبيعة.

 

  • هذا التحليل لا يقف عند حدود الوصف، بل هو تفسير علمي يربط بين الظروف المادية (الجغرافيا
  •  والمناخ والاقتصاد) والناتج السيكولوجي (الأخلاق والطباع والعقلية العامة). إنه يثبت أن سلوك
  •  الإنسان ليس نتاج إرادة حرة مطلقة، بل هو محكوم إلى حد كبير بظروفه المعيشية، وهي فكرة تشكل
  •  حجر الزاوية في الفكر الاجتماعي المادي لاحقًا.

 

#### **"العصبية" المحرك الديناميكي للتاريخ والسلطة**

 

إذا كانت البيئة تفسر طبائع الشعوب، فإن المفهوم المركزي الذي يفسر حركة التاريخ وصعود وهبوط الدول لدى ابن خلدون هو "العصبية". هذا المصطلح، الذي يترجمه بوتول ببراعة ويحلله بعمق، يعني روح التضامن، والتكافل، والولاء الجماعي الذي يربط أفراد مجموعة بشرية معينة، سواء كانت قبيلة أو عشيرة أو أمة.

 

  1. لقد لاحظ ابن خلدون مفارقة أدهشت المؤرخين: إن الشعوب الأقل تحضرًا، والأكثر خشونة في
  2.  العيش، هي التي غالبًا ما تحقق أكبر الفتوحات وتؤسس أقوى الدول. يفسر ابن خلدون هذه الظاهرة
  3.  تفسيرًا اقتصاديًا واجتماعيًا خالصًا. فالبدو وسكان الصحاري، بحكم حياتهم القاسية التي تتطلب تعاونًا
  4.  مطلقًا من أجل البقاء، يمتلكون "عصبية" في أقصى درجات قوتها. ليس لديهم ما يخسرونه، وحياتهم
  5.  الخشنة تمنحهم الشجاعة والقدرة على التحمل.

 

في المقابل، فإن الشعوب التي تستقر في الحواضر وتعيش حياة الترف والدعة، تضعف عصبيتها تدريجيًا. يحل التنافس الفردي محل التضامن الجماعي، وتتآكل الشجاعة بفعل الركون إلى الراحة والحماية التي توفرها أسوار المدن وجيوش الدولة. وهكذا، تصبح الدولة الحضرية المترفة فريسة سهلة لأي جماعة بدوية متماسكة تمتلك عصبية قوية.

 

  • من هنا، صاغ ابن خلدون نظريته الشهيرة في دورة حياة الدول، التي تمر بأطوار تشبه أطوار حياة
  •  الكائن الحي: طور النشأة والفتوة (قوة العصبية)، ثم طور الملك والاستقرار، وأخيرًا طور الهرم
  •  والشيخوخة (ضعف العصبية)، الذي يؤدي حتمًا إلى السقوط على يد عصبية جديدة وفتية. إن
  •  العصبية، في نظر ابن خلدون، ليست مجرد رابطة دموية، بل هي وقود نفسي ومعنوي يجعل جماعة
  •  ما قادرة على الفعل التاريخي وبناء السلطة.

 

#### **جرأة فكرية تفكيك "النبالة" والترقي الاجتماعي**

 

لم يقتصر تطبيق مفهوم العصبية على تفسير قيام الدول، بل امتد ليشمل فهم بنية المجتمع الداخلية، وتحديدًا ما يسمى اليوم بـ "الترقي الاجتماعي". يتوقف بوتول عند الجرأة الفكرية التي أبداها ابن خلدون في تناوله لموضوع "النبالة" والشرف، وهو موضوع شديد الحساسية في مجتمعات تقوم على الأنساب والتفاخر بالأسلاف.

 

  • لقد جرد ابن خلدون "النبالة" من قداستها الموروثة، ورأى فيها مجرد انعكاس للواقع المادي
  •  والسلطوي لمجموعة ما في لحظة تاريخية معينة. فالأسرة أو الجماعة التي تتقلد السلطة وتصبح
  •  "نبيلة"، لا تفعل ذلك لصفاء دمها، بل لأنها تمتلك "عصبية" قوية مكّنتها من فرض هيمنتها. 

وبمجرد أن تفقد هذه الأسرة عصبيتها وتتلاشى قوتها الفعلية، يزول شرفها ونبالتها، حتى لو بقيت تتغنى بأمجاد أجدادها. وبهذا، تصبح النبالة صفة مكتسبة ومتغيرة، وليست أبدية، وهي مرتبطة بالقدرة على القيادة والحماية، أي بوظيفة اجتماعية حقيقية. إنها رؤية وظيفية للسلطة والطبقة الاجتماعية تجعله سابقًا لعلماء اجتماع مثل فيلفريدو باريتو ونظريته عن "دورة النخب".

 

#### ** إرث خالد لعالم سبق زمانه**

 

في نهاية المطاف، ينجح كتاب جوستون بوتول في إبراز الأبعاد الثورية لفكر ابن خلدون، ويضعه في مكانه الصحيح كأحد عمالقة الفكر الإنساني. إن ابن خلدون لم يكن مجرد ناقل للمعرفة، بل كان منتجًا لها، مبتكرًا لمنهج علمي صارم لتحليل المجتمع الإنساني. لقد أثبت أن الظواهر الاجتماعية ليست عشوائية، بل تخضع لقوانين يمكن اكتشافها، وأن مصائر الأمم لا تتحدد بالصدفة، بل بتفاعل معقد بين البيئة الجغرافية، والظروف الاقتصادية، والقوة المعنوية المتمثلة في "العصبية".

 الختام

إن إعادة نشر كتاب بوتول اليوم ليس مجرد احتفاء بتاريخ الفكر، بل هو دعوة ملحة لإعادة قراءة ابن خلدون بعيون معاصرة. فأفكاره حول دور التضامن الاجتماعي في بناء الأمم، وتأثير الترف في تآكل الدول، والعلاقة الجدلية بين البداوة والحضارة، ودورة صعود وهبوط القوى، لا تزال تكتسب راهنية مدهشة في عالمنا المضطرب، وتمنحنا أدوات فكرية فريدة لفهم تحديات الحاضر واستشراف آفاق المستقبل.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent