### **لماذا ننام: رحلة في أعماق العقل والجسد لكشف أسرار النوم**
في خضم سباق الحياة المعاصرة، حيث تُقاس القيمة
بالإنتاجية ويُنظر إلى اليقظة على أنها فضيلة، أصبح النوم ضحية ثانوية. لقد اعتدنا
على اعتباره فترة خمول، أو رفاهية يمكن التنازل عنها، أو حتى عدوًا للنجاح يسرق
منا ساعات ثمينة كان من الممكن استثمارها في العمل أو الإنجاز.
![]() |
### **لماذا ننام: رحلة في أعماق العقل والجسد لكشف أسرار النوم** |
- لكن ماذا لو كانت هذه النظرة السائدة خاطئة تمامًا؟ ماذا لو كان النوم ليس مجرد راحة، بل هو العملية
- البيولوجية الأكثر فعالية وقوة لإعادة ضبط صحتنا الجسدية والعقلية؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي
- يجيب عليه عالم الأعصاب وخبير النوم، ماثيو ووكر، في كتابه الثوري "لماذا ننام"، والذي يعتبر
- بمثابة دعوة للاستيقاظ لأمة تعاني من وباء صامت: الحرمان
من النوم.
إن فهمنا للنوم قد تطور بشكل جذري خلال العقدين
الماضيين. لم يعد يُنظر إليه على أنه مجرد "إطفاء" للدماغ، بل كحالة
نشطة ومنظمة بدقة، تنقسم إلى مراحل مختلفة (نوم حركة العين غير السريعة NREM، ونوم حركة العين
السريعة REM)، ولكل مرحلة وظائف فريدة وحيوية لا يمكن
تحقيقها في حالة اليقظة. إن تجاهل هذه الحاجة البيولوجية الأساسية له عواقب وخيمة
تتجاوز مجرد الشعور بالنعاس، لتصل إلى صميم صحتنا، وذاكرتنا، وإبداعنا، وحتى
وجودنا ذاته.
#### **النوم مهندس الذاكرة ومُعزز التعلّم**
أحد أبرز الاكتشافات التي يركز عليها ووكر هو
الدور الحاسم للنوم في عملية التعلم وتكوين الذاكرة. تعمل هذه العملية على مرحلتين
متكاملتين.
**المرحلة الأولى: حفظ المعلومات.** أثناء نوم
حركة العين غير السريعة (NREM)، وتحديدًا في
موجات النوم العميقة، يقوم الدماغ بعملية أشبه بنقل الملفات. يتم أخذ الذكريات
الحديثة والهشة، والمخزنة مؤقتًا في "الحصين" (Hippocampus) – الذي يشبه بطاقة
ذاكرة USB ذات سعة محدودة – ونقلها إلى "القشرة المخية" (Cortex)، وهي بمثابة القرص الصلب للدماغ ذي السعة التخزينية الهائلة. هذه
العملية لا تؤمن الذكريات وتحميها من النسيان فحسب، بل تقوم أيضًا بإفراغ الحصين،
مما يجعله جاهزًا لاستقبال معلومات جديدة في اليوم التالي. بدون نوم كافٍ، يبقى
الحصين ممتلئًا، وتصبح قدرتنا على تعلم مهارات أو معلومات جديدة ضعيفة للغاية.
**المرحلة الثانية: الإبداع وربط الأفكار.** بعد
ذلك، يأتي دور نوم حركة العين السريعة
(REM)، وهو
المرحلة التي تحدث فيها معظم الأحلام. في هذه المرحلة، لا يكتفي الدماغ بتخزين
المعلومات، بل يبدأ في ربطها ببعضها البعض وبشبكة الذكريات القديمة. إنه يقوم
بعملية دمج معرفي، فيبحث عن روابط وأنماط خفية لم نكن ندركها ونحن مستيقظون. هذه
هي المرحلة التي تولد فيها الحلول الإبداعية للمشكلات المعقدة. إنها اللحظة التي
تجعلنا نستيقظ صباحًا بفكرة "وجدتها!". النوم، بهذا المعنى، لا يساعدنا
فقط على تذكر الماضي، بل يساعدنا على فهم المستقبل وحل تحدياته.
#### **حارس جهاز المناعة وصحة الجسد**
تمتد فوائد النوم لتشمل كل خلية وجهاز في الجسم.
يعتبر النوم القوة الضاربة لجهاز المناعة. خلال النوم العميق، ينتج الجسم ويعزز
نشاط "الخلايا القاتلة الطبيعية" (Natural Killer Cells)، وهي خط الدفاع
الأول ضد الفيروسات والخلايا السرطانية. أظهرت الدراسات أن ليلة واحدة فقط من
النوم المحدود (4-5 ساعات) يمكن أن تقلل من نشاط هذه الخلايا بنسبة تصل إلى 70%،
مما يجعلنا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض، من نزلات البرد الشائعة إلى الأمراض
الأكثر خطورة.
- على صعيد الصحة الأيضية، يُعد الحرمان من النوم وصفة شبه مؤكدة لزيادة الوزن والإصابة بمرض
- السكري من النوع الثاني. يؤدي قلة النوم إلى اختلال هرموني خطير: يرتفع هرمون "الجريلين"
- (Ghrelin) المسؤول عن الشعور بالجوع، وينخفض هرمون "اللبتين" (Leptin) المسؤول عن
- الشعور بالشبع. والنتيجة هي زيادة الشهية، خاصة تجاه الأطعمة الغنية بالسكر والكربوهيدرات.
- علاوة على ذلك، يجعل قلة النوم خلايا الجسم أقل استجابة للأنسولين، مما يرفع مستويات السكر في
- الدم ويضعف قدرة الجسم على تنظيمها.
أما نظام القلب والأوعية الدموية، فهو يدفع
ثمنًا باهظًا لليالي الطوال. يعمل النوم كبلسم طبيعي للقلب، حيث تنخفض خلاله
معدلات ضربات القلب وضغط الدم. أما الحرمان المزمن من النوم فيبقي الجهاز العصبي
الودي في حالة تأهب قصوى، مما يرفع ضغط الدم ويزيد من إفراز هرمونات التوتر مثل
الكورتيزول، الأمر الذي يرفع بشكل كبير من خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتات
الدماغية.
#### **النوم علاج ليلي للصحة النفسية والعاطفية**
إذا كان الدماغ هو القائد، فإن العواطف هي
البوصلة التي توجه قراراتنا. والنوم هو المعالج الليلي الذي يعيد ضبط هذه البوصلة.
"اللوزة الدماغية" (Amygdala) هي مركز العواطف
والانفعالات في الدماغ، وعندما نكون محرومين من النوم، تصبح هذه المنطقة شديدة
النشاط، بينما يتراجع نشاط "قشرة الفص الجبهي" (Prefrontal Cortex)، الجزء المسؤول عن التفكير المنطقي وضبط النفس. هذا
المزيج المتفجر يجعلنا أكثر انفعالية، وتقلبًا في المزاج، وقلقًا، وعرضة لاتخاذ
قرارات متهورة.
- يقدم نوم حركة العين السريعة (REM) خدمة علاجية فريدة. خلال الأحلام، يعيد الدماغ معالجة
- التجارب العاطفية المؤلمة والمجهدة التي مررنا بها خلال اليوم، ولكنه يفعل ذلك في بيئة كيميائية
- خالية من هرمونات التوتر. هذه العملية تساعد على فصل الشحنة العاطفية القوية عن الذاكرة نفسها
- مما يسمح لنا بتذكر الحدث دون أن نعيش الألم العاطفي المصاحب له مرة أخرى. وبهذا، يعمل النوم
- كإسعافات أولية عاطفية، تساعدنا على تجاوز الصدمات والضغوطات اليومية بمرونة أكبر.
#### **دعوة لإعادة تقدير النوم**
إن الرسالة التي يقدمها ماثيو ووكر واضحة وقوية: النوم ليس خيارًا، بل هو ضرورة بيولوجية غير قابلة للتفاوض. إنه ليس دليلًا على الكسل، بل هو أذكى استثمار يمكن أن نقوم به في صحتنا، وإنتاجيتنا، وسعادتنا. نحن بحاجة إلى تحول ثقافي جذري في نظرتنا للنوم، من اعتباره وقتًا ضائعًا إلى اعتباره أساسًا لكل شيء آخر.
لتحقيق ذلك، يجب أن نبدأ بأنفسنا عبر تبني "نظافة
النوم" الجيدة:
1. **الانتظام:**
الذهاب إلى الفراش والاستيقاظ في نفس الوقت كل يوم، حتى في عطلات نهاية الأسبوع.
2. **البرودة:**
الحفاظ على درجة حرارة غرفة النوم باردة نسبيًا (حوالي 18 درجة مئوية)، حيث إن
انخفاض درجة حرارة الجسم يساعد على بدء النوم.
3. **الظلام:**
تجنب التعرض للضوء الساطع، وخاصة الضوء الأزرق المنبعث من الشاشات، قبل ساعة أو
ساعتين من موعد النوم.
4. **تجنب
المنبهات:** الامتناع عن تناول الكافيين بعد الظهر، وتجنب الكحول قبل النوم، لأنه
يعيق نوم حركة العين السريعة.
في الختام
إن كتاب "لماذا ننام" ليس
مجرد كتاب عن علم النوم، بل هو بيان للدفاع عن أحد أركان الحياة الأساسية التي
أهملناها طويلًا. إنه يذكرنا بأن الحصول على ثماني ساعات من النوم الجيد ليس
ترفًا، بل هو حقنا البيولوجي، وأقوى دواء مجاني متاح لنا لنعيش حياة أطول، وأكثر
صحة، وإبداعًا، وسعادة.