**«الحب عربة مهترئة»: محاكمة الماضي واستشراف الذات في مرآة الهشاشة الإنسانية**
يُطلّ علينا الكاتب الجزائري المرموق أحمد
طيباوي بإصداره الروائي الجديد «الحب عربة مهترئة»، الصادر عن دار «الشروق» المرموقة
بالقاهرة، ليقدم لنا وجبة أدبية دسمة تمزج بين عمق التأمل الفلسفي وصدق التجربة
الإنسانية. تنطلق الرواية من عتبة وجودية حرجة، حيث يرقد بطلها على سرير المرض في
إحدى مصحات العلاج، وهي نقطة انطلاق تتيح للكاتب استكشاف أغوار النفس البشرية في
لحظات ضعفها القصوى وهشاشتها المتجلية.
![]() |
**«الحب عربة مهترئة»: محاكمة الماضي واستشراف الذات في مرآة الهشاشة الإنسانية** |
**منطقة السرد كشف حساب على حافة الوجود**
يتحول سرير المرض إلى منصة لمحاكمة الذات والماضي، حيث يبدأ الراوي عملية أشبه بـ«كشف حساب» شامل،
لا يقتصر على الأحداث والوقائع، بل يمتد ليشمل مراجعة نقدية للعديد من الجوانب التي أغفلها أو تجاهلها
في خضم انشغالات حياته السابقة. تتكشف أمامه شخصيات عاش معها، وعلاقات شكلت مساره،
ليطرح تأملات إنسانية عميقة حول ثنائيات الحياة والموت، المرض والصحة، الماضي
والحاضر، بمنظور فلسفي يتسم بالنضج والحدة.
- عبر آلية «لعبة التذكر»، يستعيد الراوي تفاصيل علاقاته الشائكة: علاقته المعقدة بوالده، تلك السلطة
- الأبوية التي ربما رسمت له مسارًا لم يختره. علاقته بزوجته التي هجرته، تاركةً وراءها أسئلة
- وندوبًا. ثم علاقته بالفتاة الوحيدة التي أحبها بصدق، والتي يتعلق بأمل استردادها كطوق نجاة عاطفي.
- ولا يغفل تأمل علاقته بصديقه الوحيد، ذلك الشاهد على محطات من حياته. هذه الاستعادة ليست مجرد
- سرد نوستالجي، بل هي تشريح دقيق لمكونات حياته العاطفية
والاجتماعية.
**سيناريوهات متخيلة وجيل الاختيارات المحدودة**
في محاولة لمواجهة المجهول أو ربما للسيطرة على مصير يبدو منفلتًا، يرسم الراوي ثلاثة سيناريوهات متخيلة للحياة بعد تجاوز محنة المرض.
في هذه السيناريوهات، يتلاعب بمصيره ومصائر الشخصيات الأخرى، كأنه يمارس
سلطة تعويضية على حياة شعر فيها بالعجز. هذه اللعبة السردية تعكس الضغط النفسي
الهائل الذي يعيشه تحت وطأة اللحظة الهشة.
- تطرح الرواية مفهومًا محوريًا يسميه الكاتب «جيل الاختيارات المحدودة». هذا الجيل، الذي ينتمي إليه
- الراوي، يجد حياته تسير دائمًا وفق الاختيار الوحيد المتاح، ضمن سياق «الحتمية» المفروضة عليه.
- إنه جيل لم تُتح له رفاهية الاختيار بين بدائل متعددة، بل غالبًا ما كان عليه القبول بالمسار الواحد، مما
- يولد شعورًا بالاغتراب وفقدان السيطرة على المصير.
**مرارة الواقع وضيق الأفق**
يعترف الراوي بأنه، رغم كفاءته في الرياضيات، كان يميل
لدراسة الآداب، لولا "حكمة الرجل الذي وُلدت ووجدته والدي". هذه "الحكمة
العلوية" التي لم يدركها قط، قادته إلى مهنة التدريس في ثانوية بائسة بضاحية
من ضواحي العاصمة، تملؤها "بيوت قصديرية وأطفال مشردون".
- يصف الراوي بداية مسيرته المهنية في حي "ابن طلحة"، الذي شهد مجزرة فظيعة في التسعينيات،
- كدليل على أن "الإنسان هو العدو الأكبر للإنسانية". ورغم حماسه الأولي، سرعان ما يخبو هذا
- الحماس ليحل محله الفتور والضجر من "الروتين والتكرار"، ومنظومة التعليم القائمة على "التلقين
- بدل الفهم وبناء العقول"، و"النجاح المزيف" و"الغش في الامتحانات". يمتد ضيقه ليشمل سلوك
- التلاميذ، حديث زملائه عن الرواتب، اهتمامات الناس "الغبية" بكرة القدم، وكل ما يحيط به ويتحول
- إلى مصدر "قلق
ويصيبني بالضيق والكآبة".
يختتم الراوي هذا البوح بتأكيد انتمائه لهذا
الجيل: "أنا من جيل الاختيارات المحدودة... حياتي تسير دائمًا وفق الاختيار
الوحيد المتاح وهو «الحتمية»... كل الآخرين الذين أعرفهم... كلهم كانوا أنا، إلا
أنا لم أكن نفسي يوماً. الآخرون هم جحيمنا الأبدي". هذه العبارة الأخيرة،
المستوحاة من سارتر، تلخص مأزقه الوجودي وشعوره بأن ذاته الحقيقية قد ضاعت وسط
تأثيرات الآخرين والظروف القاهرة.
**أحمد طيباوي بصمة أكاديمية وإبداع متوج**
تجدر الإشارة إلى أن أحمد طيباوي، كاتب الرواية،
هو أكاديمي يحاضر في إدارة الأعمال، وهو ما قد يفسر النزعة التحليلية والمنطقية في
بناء عوالمه الروائية. وقد حاز طيباوي على تقدير نقدي وجماهيري واسع، بتتويج
روايته «اختفاء السيد لا أحد» بجائزة «نجيب محفوظ» المرموقة التي تقدمها الجامعة
الأميركية بالقاهرة، وفوز روايته «موت ناعم» بجائزة «الطيب صالح» للإبداع الكتابي.
هذه الجوائز تشهد على موهبته وقدرته على تقديم أعمال أدبية ذات قيمة فنية وفكرية
عالية.
في الختام
تعد رواية «الحب عربة مهترئة» إضافة نوعية للمكتبة العربية، فهي لا تقدم مجرد قصة، بل تغوص في أعماق النفس الإنسانية لتطرح أسئلة وجودية حول معنى الحياة، والحرية، والحب، في عالم يبدو أحيانًا وكأنه يسلبنا القدرة على الاختيار.
إنها دعوة للتأمل في هشاشتنا، وفي تلك "العربة
المهترئة" التي قد تكون استعارة لحب تلاشى أو حياة أرهقتها الخيارات المحدودة.