**"الدراسة السوداء": رحلة إلى أغوار العقل والجريمة في العصر الفيكتوري**
تُعد رواية "الدراسة السوداء" للكاتب
الإسباني المرموق خوسيه كارلوس سموثا، عملاً أدبياً فريداً ينسج ببراعة خيوط
الغموض التاريخي بالتشويق النفسي، ناقلاً القارئ إلى عوالم إنجلترا الفيكتورية
المظلمة والمضطربة في عام ١٨٨٢. إنها ليست مجرد رواية بوليسية تقليدية، بل هي غوص
عميق في النفس البشرية، واستكشاف للحدود الفاصلة بين العبقرية والجنون، والواقع
والخيال، وذلك من خلال حبكة معقدة وشخصيات مرسومة بعناية فائقة.
![]() |
**"الدراسة السوداء": رحلة إلى أغوار العقل والجريمة في العصر الفيكتوري** |
**إطار زمني ومكاني يعج بالتناقضات**
تأخذنا الرواية إلى قلب إنجلترا في أواخر القرن التاسع عشر، وهي فترة تميزت بالازدهار الصناعي والتقدم العلمي،
ولكنها أيضاً كانت حقبة موبوءة بالفقر المدقع، والتفاوت الطبقي الصارخ، وانتشار الأمراض، وظهور نظريات جديدة حول العقل البشري والاضطرابات النفسية. تتنقل الأحداث بين صخب وضباب لندن، المدينة التي كانت مركز الإمبراطورية ولكنها أيضاً كانت مرتعاً للجريمة والبؤس، وبين مدينة بورتسموث الساحلية، التي تحتضن مصحة عقلية ستصبح مسرحاً رئيسياً للأحداث.
- هذا التباين المكاني يعكس التناقضات الأوسع في المجتمع الفيكتوري
- حيث يتعايش البريق الخارجي مع الظلام الداخلي.
**شخصيات محورية تحمل أبعاداً مركبة**
في قلب هذا العالم، تبرز ثلاث شخصيات رئيسية
تشكل نواة السرد:
1. **الممرضة
الشابة:** تمثل هذه الشخصية، التي تدفعها ظروف غامضة للهروب من لندن والبحث عن
ملاذ وعمل في مصحة بورتسموث، عين القارئ وبوابته إلى الأحداث. هي ليست مجرد شاهدة،
بل تتورط تدريجياً في الأحداث، وتصبح حلقة وصل حيوية بين عالم المصحة المنغلق
وعالم الجريمة الخارجي. تُكلَّف برعاية مريض استثنائي، وهو ما يضعها في مواجهة
مباشرة مع الغرابة والغموض، ويختبر قوتها الداخلية وتعاطفها.
2. **السيد
"إكس" (Mr. X):** هو اللغز المركزي في الرواية. نزيل المصحة العقلية منذ نعومة
أظفاره، يوصف بأنه غامض، سيئ الطباع، وغريب الأطوار. يجد راحته في الظلام، ويستمتع
بلعب الشطرنج، ونادراً ما يغادر غرفته. على الرغم من حالته، يمتلك السيد "إكس"
عقلاً تحليلياً فذاً وقدرة استنتاجية مذهلة، تجعله مهووساً بحل سلسلة من جرائم
القتل البشعة التي تستهدف المتسولين والمهمشين في المجتمع. طريقته في التفكير،
التي قد تبدو غير تقليدية أو حتى مختلة للبعض، هي ما يمكّنه من رؤية أنماط
واتصالات تفوت على العقول "السوية".
3. **الدكتور
آرثر كونان دويل:** يضيف سموثا لمسة تاريخية بارعة بإدخال شخصية آرثر كونان دويل،
الطبيب الشاب الذي لم يكن قد أصبح بعد الأب الروحي لشخصية شرلوك هولمز الأسطورية. في الرواية، دويل هو الطبيب المعالج للسيد "إكس"، وفي الوقت ذاته، كاتب
طموح يحاول تأليف رواية تحقيق ويبحث بشغف عن إلهام. يرى في السيد "إكس" وقدراته
الاستثنائية مادة خصبة، وربما الشرارة التي ستوقد مخيلته لشخصية محققه المستقبلي. يشكل
دويل الجانب العقلاني والعلمي في فريق التحقيق غير المتوقع هذا.
**حبكة بوليسية تتجاوز المألوف**
تتصاعد الأحداث مع ظهور سلسلة من جرائم القتل التي تتسم بالوحشية والتنظيم المسرحي المتقن،
وتستهدف فئة المتسولين، مما يشير إلى
دافع يتجاوز مجرد القتل العشوائي. تتزايد وتيرة الجرائم، وتصبح أكثر تعقيداً، مما
يضع السلطات في حيرة. هنا، يبرز دور السيد "إكس" الذي يبدأ، من عزلته في
المصحة، في تحليل تفاصيل الجرائم ومحاولة فك رموزها.
- ينجذب الدكتور دويل، الباحث عن الإلهام، والممرضة الشابة، بدافع الفضول والتعاطف، إلى عالم
- السيد "إكس" الغريب وقدراته التحليلية. يشكل الثلاثي فريقاً غير متجانس، يجمع بين العقلانية الطبية
- والحدس الأنثوي، والعبقرية "المجنونة"، ليخوضوا معاً في أعماق هذه
القضية المظلمة.
**أجواء الرواية مزيج من الدعابة السوداء والمؤامرات الفيكتورية**
الرواية لا تخلو من "جو من الدعابة"، وهو ما قد يكون دعابة سوداء تتناسب مع قتامة الأحداث والشخصيات غريبة الأطوار.
كما تُلمح إلى "المؤامرات"، مما يوحي بأن الجرائم قد
تكون جزءاً من مخطط أكبر وأكثر تعقيداً مما يبدو على السطح. ولا يمكن إغفال "أجواء
المسرح الفيكتوري"، التي قد تنعكس في الطريقة المسرحية لارتكاب الجرائم، أو
ربما في استعراض الشخصيات لسلوكيات تحمل طابعاً استعراضياً، أو حتى في الإشارة إلى
عالم الترفيه السائد آنذاك.
**أبعاد أعمق ورسائل ضمنية**
من خلال هذه الحبكة المثيرة، يبدو أن سموثا
يستكشف موضوعات أعمق:
* **طبيعة
العقل البشري:** التساؤل حول ما هو "طبيعي" وما هو "غير طبيعي"،
وكيف يمكن للظروف القاسية أو للعزلة أن تشكل تصورات الفرد وقدراته.
* **العدالة
الاجتماعية:** تسليط الضوء على المهمشين في المجتمع (المتسولون، نزلاء المصحات) وكيف
يصبحون ضحايا سهلة للإهمال أو للاستهداف.
* **نشأة
أدب التحقيق:** من خلال شخصية دويل، تقدم الرواية لمحة عن بدايات هذا النوع الأدبي
الشهير، وكيف يمكن للواقع أن يلهم الخيال.
* **العلاقة
بين الإبداع والاضطراب:** التلميح إلى أن الخط الفاصل بين العبقرية والجنون قد
يكون رفيعاً، وأن بعض ألمع الأفكار قد تنبثق من عقول تبدو مضطربة.
**ختاماً**
رواية "الدراسة السوداء" لخوسيه كارلوس سموثا تعد بأن تكون تجربة قراءة غنية ومثيرة، تجمع بين التشويق البوليسي، والعمق النفسي، والسياق التاريخي الغني بالتفاصيل. هي دعوة لاكتشاف أسرار العصر الفيكتوري من خلال عيون شخصيات فريدة، والغوص في تحقيق يكشف عن جوانب مظلمة من الطبيعة البشرية والمجتمع، كل ذلك في إطار سردي متقن يمزج بين الحقائق التاريخية والخيال الروائي بأسلوب احترافي وجذاب.
إنها عمل يستحق القراءة ليس فقط لمحبي
ألغاز الجريمة، بل أيضاً لأولئك الذين يقدرون الأدب الذي يتحدى الأفكار المسبقة
ويستكشف تعقيدات الروح الإنسانية.