recent
أخبار ساخنة

### **بطلات الظل: إعادة كتابة تاريخ الجاسوسية من منظور نسائي**

الصفحة الرئيسية

 

### **بطلات الظل: إعادة كتابة تاريخ الجاسوسية من منظور نسائي**

 

في عالم الاستخبارات والجاسوسية، ذلك المسرح الخفي الذي تُحاك فيه خيوط مصائر الأمم، لطالما هيمنت صورة نمطية واحدة: الجاسوس الرجل. هو ذلك البطل ذو الأعصاب الفولاذية، الذي يتنقل بين العواصم بخفة، ويجيد المراوغة واستخلاص الأسرار، بينما تظل المرأة في هذا العالم إما شخصية هامشية، أو مجرد أداة إغواء تُستخدم وتُنبذ، أو في أفضل الأحوال، زوجة مخلصة تنتظر عودة البطل من مهمته الخطرة. لكن هذه السردية، التي رسختها عقود من الأدب والسينما والتوثيق التاريخي المتحيز، ليست سوى نصف الحقيقة، وربما أقل.

في عالم الاستخبارات والجاسوسية، ذلك المسرح الخفي الذي تُحاك فيه خيوط مصائر الأمم، لطالما هيمنت صورة نمطية واحدة: الجاسوس الرجل. هو ذلك البطل ذو الأعصاب الفولاذية، الذي يتنقل بين العواصم بخفة، ويجيد المراوغة واستخلاص الأسرار، بينما تظل المرأة في هذا العالم إما شخصية هامشية، أو مجرد أداة إغواء تُستخدم وتُنبذ، أو في أفضل الأحوال، زوجة مخلصة تنتظر عودة البطل من مهمته الخطرة. لكن هذه السردية، التي رسختها عقود من الأدب والسينما والتوثيق التاريخي المتحيز، ليست سوى نصف الحقيقة، وربما أقل.
### **بطلات الظل: إعادة كتابة تاريخ الجاسوسية من منظور نسائي**


### **بطلات الظل: إعادة كتابة تاريخ الجاسوسية من منظور نسائي**


  • إن الحفر في أرشيفات أجهزة المخابرات العالمية، والاستماع إلى الأصوات التي أُسكتت طويلًا
  •  يكشف عن حقيقة مذهلة: كانت النساء دائمًا في قلب اللعبة، ليس فقط كأدوات، بل كعقول مدبرة
  • وعميلات ميدانيات، ومحللات استراتيجيات، ومجندات من الطراز الرفيع. لقد كانت قصصهن أكثر
  • تعقيدًا، وأدوارهن أعمق تأثيرًا، وتضحياتهن لا تقل جسامة عن نظرائهن من الرجال. واليوم، نشهد
  •  حركة تصحيحية بدأت تنفض الغبار عن هؤلاء البطلات، لتنتشلهن من هوامش التاريخ وتضعهن
  •  في مركز الحكاية التي كن دائمًا جزءًا لا يتجزأ منها.

**من البحث الشخصي إلى الكشف التاريخي**

 

غالبًا ما تبدأ الرحلات الكبرى بسؤال شخصي. هذا ما حدث مع الكاتبة شارلوت فيلبي، حفيدة الجاسوس المزدوج الأشهر كيم فيلبي. رحلتها إلى موسكو، سعيًا لفهم إرث جدها المعقد، فتحت عينيها على فراغ هائل في القصة: أين كانت النساء؟ لم تكن حكاية "خماسية كامبريدج" الشهيرة سوى حكاية رجال، أما النساء مثل روفينا، زوجة فيلبي الرابعة، فقد قُدمن إما كـ"هدية" من الكي جي بي أو كرقيبة عليه، دون الاعتراف بأي فاعلية أو دور مستقل لهن.

 

  • هذا التساؤل هو المفتاح الذي يفتح الباب على عالم كامل من القصص المنسية. فما اكتشفته فيلبي
  •  وغيرها من المؤرخات المعاصرات هو أن النساء لم يكنّ غائبات، بل كنّ متخفيات ببراعة خلف
  •  الأدوار الاجتماعية التي فرضها عليهن عصرهن. لقد استخدمن "قناع اللامرئية" كسلاح استراتيجي
  •  فتاك. فالزوجة، والأم، والسكرتيرة، والممرضة، والفنانة، كانت أدوارًا تسمح لهن بالوصول إلى
  •  دوائر لم يكن بإمكان الرجال اختراقها، والاستماع إلى محادثات لم تكن لتُقال في حضورهم، وكل ذلك
  •  دون إثارة أي شبهات.

 

**بانوراما من الشجاعة والتنوع**

 

يمتد تاريخ الجاسوسات عبر العصور والثقافات، وتتنوع دوافعهن بتنوع قصصهن. ففي الحرب الأهلية الأمريكية، لم تكن **هارييت توبمان** مجرد قائدة في "السكك الحديدية تحت الأرض" التي هربت العبيد إلى الشمال، بل كانت أيضًا كشافة مسلحة وجاسوسة لصالح جيش الاتحاد، حيث قادت شبكة من العملاء السريين وقدمت معلومات استخباراتية حاسمة أدت إلى انتصارات عسكرية.

 

  1. وفي خضم الحرب العالمية الثانية، برزت أسماء لامعة مثل **نور عنايت خان**، أميرة هندية
  2.  الأصل ومتصوفة هادئة، أصبحت عاملة لاسلكي في فرنسا المحتلة لصالح منظمة العمليات الخاصة
  3.  البريطانية (SOE). رغم المخاطر الهائلة، ظلت تبث رسائلها الحيوية حتى اللحظة الأخيرة قبل
  4.  اعتقالها وإعدامها، مظهرة شجاعة أسطورية.

 وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، استخدمت الفنانة الاستعراضية **جوزفين بيكر** شهرتها العالمية كغطاء لأنشطتها في المقاومة الفرنسية، حيث كانت تهرب الرسائل المكتوبة بالحبر السري على نوتاتها الموسيقية وتستغل علاقاتها لجمع المعلومات من الدبلوماسيين والمسؤولين في الحفلات الفاخرة.

 

ولم يقتصر دورهن على الحروب العالمية. ففي الهند، أعلنت **ساراسواتي راجاماني** في طفولتها للمهاتما غاندي أنها ستقتل ضابطًا إنجليزيًا، وتحول هذا الشغف الوطني إلى انضمامها لجيش التحرير الوطني الهندي كجاسوسة، متخفية في زي صبي لجمع المعلومات من المعسكرات البريطانية.

 

**العقل المدبر والميزة الخفية**

 

الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن النساء لم يكنّ مجرد منفذات للعمليات، بل كنّ في كثير من الأحيان العقل المدبر خلفها. ففي قلب قصة كيم فيلبي نفسها، نكتشف أن من قامت بتجنيده لصالح السوفيات في ثلاثينيات القرن الماضي كانت امرأة نمساوية تدعى **إديث تيودور-هارت**.

  •  كانت هذه المصورة البارعة والأم العزباء ذات أهمية قصوى لدرجة أن أنتوني بلانت، جاسوس آخر
  •  في خلية كامبريدج، وصفها بأنها "الجدة الكبرى لنا جميعًا". ومن المفارقات أن من حاولت كشف
  •  فيلبي في وقت مبكر كانت أيضًا امرأة، هي **جين سيسمور**، أول ضابطة في جهاز MI5، لكن
  •  شكوكها قوبلت بالتجاهل وفُصلت قبل أن تتمكن من إثبات نظريتها.

 

  1. وهنا تكمن إحدى أهم المزايا الاستراتيجية التي امتلكتها الجاسوسات: القدرة على أن يتم الاستهانة بهن.
  2.  في عالم يهيمن عليه الرجال، كان يُنظر إلى المرأة على أنها أقل تهديدًا، وأقل ذكاءً استراتيجيًا، مما
  3.  منحها غطاءً مثاليًا. **أورسولا كوشينسكي**، المعروفة بالعميلة "سونيا"

 كانت خير مثال على ذلك. بالنسبة لجيرانها في الريف الإنجليزي، كانت مجرد ربة منزل وأم، لكنها في الحقيقة كانت كولونيل في الجيش الأحمر السوفياتي وقائدة شبكة تجسس بالغة الأهمية ساهمت في نقل أسرار القنبلة الذرية إلى موسكو. لقد منحها دورها كأم وزوجة "عباءة إخفاء" سمحت لها بالعمل تحت أنظار جهاز MI5 البريطاني لسنوات دون أن تُكتشف.

 

**تكسير السقف الزجاجي في عالم الظل**

 

رغم هذه الأدوار التاريخية، ظلت أجهزة الاستخبارات الرسمية لعقود طويلة حكرًا على الرجال. كما ذكر فيرنون كيل، مؤسس MI5، فإنه كان يبحث عن رجال "يستطيعون تدوين ملاحظاتهم على أطراف أكمام قمصانهم وهم على ظهور الخيل". هذا التصور الأرستقراطي الذكوري استبعد النساء من الأدوار العملياتية حتى أواخر السبعينيات.

 

ب
دأ التغيير ببطء، وبفضل نضال نساء رائدات مثل **السيدة ستيلا ريمينغتون**، التي تحدت الوضع
 القائم في MI5 وطالبت بفرص متساوية، لتصبح في عام 1992 أول امرأة تترأس الجهاز. واليوم، يصل هذا التغيير إلى ذروته مع الإعلان عن تعيين **بلايز متروويلي** كأول امرأة تتولى قيادة جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني (MI6)

  1.  وهو الجهاز الذي ارتبط تاريخيًا بشخصيات ذكورية أيقونية مثل جيمس بوند. هذا التعيين ليس مجرد
  2.  تغيير رمزي، بل هو اعتراف متأخر بأن المهارات المطلوبة في عالم الاستخبارات الحديث - مثل
  3.  الذكاء العاطفي، وبناء العلاقات، والتفكير متعدد الأوجه، والقدرة على العمل الجماعي - لا تقتصر
  4.  على جنس دون آخر.

 

** من الظل إلى النور**

 

إن تغييب النساء عن تاريخ الجاسوسية لم يكن مجرد صدفة، بل هو انعكاس لكيفية كتابة التاريخ نفسه: بأقلام الرجال، وعن مآثر الرجال. لكن لحسن الحظ، يتغير هذا الواقع. بفضل جهود مؤرخات معاصرات وأصوات جريئة، يُعاد اليوم رسم الخريطة التاريخية لعالم الظل.

  •  نحن نكتشف أن هذا العالم لم يكن أقل تشويقًا أو خطورة بالنسبة للنساء، بل ربما كان أكثر تعقيدًا
  •  لأنهن كنّ يخضن حربين في آن واحد: حرب ضد العدو، وحرب ضد التحيزات والأعراف التي
  •  حاولت حصرهن في أدوار ثانوية.

 الختام

إن إعادة الاعتبار لقصص هؤلاء الجاسوسات ليست مجرد مسألة إنصاف تاريخي، بل هي ضرورة لفهم طبيعة القوة والتأثير بشكل أعمق. إنه يثبت أن الشجاعة لا زي رسمي لها، وأن أعظم الأسرار يمكن أن تختبئ في أكثر الأماكن وضوحًا

وأن البطل الحقيقي قد لا يكون دائمًا من نتوقع. لقد حان الوقت لتستعيد بطلات الظل مكانهن المستحق في دائرة الضوء، ليس كحواشٍ في قصص الرجال، بل كصانعات للتاريخ بحد ذاتهن.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent