## "في مرايا السرد": استكشاف عوالم الرواية والقصة القصيرة بعين الشاعر الناقد
يمثل النقد الأدبي
التطبيقي، الصادر عن قريحة المبدع المتمرس، إضافة نوعية للمشهد النقدي العربي. ذلك
أنَّ هذه الممارسة النقدية، حين تنطلق من خلفية إبداعية ثرية ومتنوعة، تتجاوز حدود
التنظير الأكاديمي.
![]() |
## "في مرايا السرد": استكشاف عوالم الرواية والقصة القصيرة بعين الشاعر الناقد |
لترسو في رحاب الغوص
العميق في تفاصيل النص، مستعينةً بآليات التحليل التي تمنحها التجربة الإبداعية
مصداقية وفاعلية. فالناقد هنا لا يختبئ خلف ستار المصطلحات المعقدة، بل ينطلق من
فهمه العميق لآليات الكتابة وصيرورة الخلق، ليقدم قراءة متميزة تتجاوز حدود الوصف
السطحي إلى استكشاف الجوهر الكامن في النص.
في هذا السياق، يبرز كتاب "في مرايا السرد"
للشاعر جمال القصاص، الصادر عن دار "بدائل" بالقاهرة، كنموذج لهذه النوعية من النقد الأدبي المتميز. يضم الكتاب مختارات من قراءات نقدية قام بها القصاص في أعمال روائية وقصصية لـ 38 كاتباً وكاتبة من مختلف الأجيال والمدارس الفنية، ممثلين بذلك تنوعاً ثرياً للمشهد الأدبي العربي. يتقدم هؤلاء المبدعين أسماء لامعة في سماء الأدب العربي
- أمثال إدوار الخراط، وجمال الغيطاني، وجميل عطية إبراهيم، وإبراهيم عبد المجيد
- وأحمد صبري أبو الفتوح، ومحمد بركة، وحمدي أبو الجليل، ومي التلمساني
- وميرال الطحاوي، وحيد الطويلة، وربيعة ريحان، ويحيى مختار، وحمدي الجزار
- وفتحي إمبابي، وأشرف الصباغ، وغيرهم ممن أثروا
المشهد الإبداعي العربي بأعمالهم المتميزة.
في تقديمه للكتاب
يشيرالقصاص إلى نقطة جوهرية، وهي أنه ليس حكاءً بالفطرة، وأن طفولته لم تشهد وفرة في
الحكايات، بل كانت شحيحة ونادرة، ورهينة المصادفات أحياناً. وهذا الاعتراف يمثل
مفتاحاً لفهم طبيعة القراءات النقدية التي يقدمها في الكتاب، حيث يتبنى القصاص موقفاً
معاكساً لهذا الشح الطفولي، ليتحول إلى حكاء يتلصص ببصيرة نافذة على ما يطرحه
الكتاب في نماذج مختارة من أعمالهم الروائية والقصصية.
- ينطلق القصاص في قراءاته من رؤية واضحة لمنهج النقد الأدبي الذي يتبناه
- فهو لا ينشغل كثيراً بالموضوع أو "التيمة" التي يتناولها النص
- معتبراً أنها دائمة التكرار، وأن النقد غالباً ما يكرس جهده لها بطريقة تقنية عقيمة
- تتعامل مع النص كأنه شيء منته وقماشة فُصلّت. بدلاً من ذلك
- يؤكد القصاص على أهمية النقد المبدع الذي يرى النص
- "ابن صيرورة خاصة مفتوحة بحيوية على شتى ملامح المعرفة الإنسانية".
ومن هذا المنطلق، يرى أن الناقد الحق يجب أن يتذكر دائماً أنه مبدع، وأن كل ما
يهمه وينشغل به هو "فضاء السرد"، وكيفية تشكيله وتضافر مغامرة الكاتب
فيه، وتوسيع أنساقه ومقوماته الذاتية، وضخ دماء جديدة في شرايينه، تكثف من فعل
القص وتكشف بتلقائية دوافع الشخوص ومعاناتها في تحمل أعباء الحياة وتناقضات واقعهم
المعيش، على شتى المستويات، بخاصة المستوى العاطفي المشبوب بهاجس الجسد والروح.
يبدأ القصاص كتابه بالتصدي لمشروع إدوار الخراط
معتبراً أن كتاباته، التي بدأت بمجموعته القصصية
الأولى "حيطان عالية"، تشبهه بروحها المصرية القبطية العربية، وتشبهنا بفضاء
حكاياتها المنسوجة من سقف أحلامنا وكوابيسنا ورغبتنا في أوطان عادلة وحرة، كما
أنها تحرضنا على أن نكون نحن كما نحب ونشتهي، لا كما يريد لنا الآخرون. في هذه
القراءة، يبرز القصاص البعد الإنساني العميق في أعمال الخراط، وقدرتها على استنطاق
الهوية المصرية بكل تنوعاتها الثقافية والدينية.
- ينتقل القصاص بعد ذلك إلى رصد انفتاح بواكير وعي جمال الغيطاني الأولى
- منذ مولده في قرية جهينة بمحافظة سوهاج بصعيد مصر
- على أحضان مشاهد ووقائع لا تزال شاخصة على جدران المعابد وضفاف النيل.
- ومع انتقال أسرته للعيش بالقاهرة في حي الجمالية ذي الطابع الشعبي القديم
- وهو الحي نفسه الذي عاش فيه نجيب محفوظ وكان مسرحاً للكثير من رواياته
اتسعت مساحة وعي الغيطاني وبدأ يتلمس طرائق للجدل والحوار بين مرآة النشأة على ضفاف النيل
والمعابد وبين مرآة الحي القاهري العريق. هنا، يسلط القصاص الضوء على أهمية البيئة
في تشكيل وعي المبدع، وكيف أن الغيطاني استطاع أن يستلهم من بيئته المصرية
المتنوعة عناصر إبداعية ثرية.
في تناوله لأعمال جميل عطية إبراهيم
يرى القصاص أنها تتسم بأسلوب سلس وشائق له رائحة خاصة يجمع بين
براءة الحكي وخبرة الكاتب المجرّب، وذلك في تلقائية شديدة العفوية، حتى يبدو كثيراً
في أعماله كأنه يوجه خطابه إلى الكبار والصغار معاً. ومن الأشياء اللافتة هنا أن له
كتاباً مشتركاً موجهاً إلى الأطفال بعنوان "صك المؤامرة: وعد بلفور" بالاشتراك
مع الكاتب الراحل صلاح عيسى. يبرز القصاص هنا قدرة عطية إبراهيم على الجمع بين
البساطة والعمق في الكتابة، والوصول إلى القارئ مهما كان عمره أو خلفيته الثقافية.
- وفي قراءته لرواية "السايكلوب" لإبراهيم عبد المجيد
- يرى القصاص أن الكاتب يضع مجموعة من أبطاله في اختبار فارق
- بين حياة عاشوها روائياً حتى الموت، وبين موت ينهضون منه كأنه ظل لحياة أخرى
- يعيدون اكتشافها من جديد. ولا تخلو الرواية من روح الفكاهة والمرح
- فسيكولوجية الكتابة لديه مرحة في جوهرها.
- هنا، يركز القصاص على البعد الفلسفي في الرواية
- وقدرة عبد المجيد على استكشاف معنى الحياة والموت من خلال شخصياته الروائية.
أما في تناوله لرواية "يدي الحجرية" للروائي حمدي أبو جليل
فيطرح القصاص عدة مداخل لقراءتها، من أبرزها
التقصي السردي لتاريخ القبائل البدوية العربية وهجرتها من الجزيرة العربية إلى مصر
وبعض بلدان المغرب العربي. أيضاً يمكن النظر إليها من نافذة علاقة الشرق والغرب
بسؤالها الشائك المتجدد، أو زاوية تقنيات الحكي والسرد بروح المغني الشعبي ومسرح
السامر. هنا، يبرز القصاص قدرة أبو جليل على استلهام التراث الشعبي في أعماله،
وتناوله للقضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة من خلال منظور تاريخي وثقافي عميق.
- في قراءته لرواية "حانة الست" للكاتب محمد بركة
- يرى القصاص أن فكرة "التقمص" تمثل مفتاحاً مهماً لفهم الرواية
- فالراوي يتقمص سيرة حياة أم كلثوم ويجعلها تروي "قصتها المحجوبة"
- في إطار علاقة شبه تفاعلية معها، محتفظاً بمسافة مرنة بينه
- وبين الشخصية توفر له متابعة الوقائع والأحداث وما تكشف عنه من أسرار ومفاجآت.
- هنا، يسلط القصاص الضوء على التقنية الروائية المتميزة التي استخدمها بركة
- في روايته،
وقدرته على استنطاق شخصية تاريخية عظيمة مثل أم كلثوم.
وحول أعمال مي
التلمساني، يرى القصاص أنها تتميز بطرائق متنوعة لمنظور الصورة، ترفدها بمجموعة من
الخبرات والوسائط الخاصة، المستقاة من فن السينما خصوصاً التقطيع الزمني لحركة
المشهد، وتنويع زوايا اللقطة لتنمية إيقاع السرد درامياً. هنا، يركز القصاص على
البعد البصري في أعمال التلمساني، وتأثرها بفن السينما في صياغة السرد الروائي.
ويختتم القصاص قراءاته
بالإشارة إلى أن ميرال الطحاوي في روايتها "بروكلين هايتس" تراهن على
طفولتها وتعيد مساءلتها بلغة مشربة بإيقاعات الشعر وأجواء التاريخ والجغرافيا،
وتستنهضها من ركام الحكايات والذكريات لتضعها في سياق زمن روائي طازج يتوزع بين
فضائي القرية والمدينة.
في الختام
يمثل كتاب "في
مرايا السرد" إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية، فهو يقدم قراءات نقدية
متبصرة في أعمال روائية وقصصية متنوعة، تنطلق من فهم عميق لآليات الكتابة وصيرورة
الخلق، وتستند إلى تجربة إبداعية ثرية ومتنوعة. ينجح القصاص في تقديم رؤى جديدة
حول الكتّاب وأساليبهم، ويساهم في إثراء النقاش حول الأدب العربي المعاصر. إن
الكتاب دعوة إلى قراءة الأدب بعين المبدع، واستكشاف الجماليات الكامنة في النص،
وتجاوز حدود التنظير الأكاديمي إلى رحاب الغوص العميق في تفاصيل العمل الإبداعي.