recent
أخبار ساخنة

## "حفيف صندل" لأحمد الخميسي: تأملات في الذات والعالم بأسلوب قصصي رفيع

الصفحة الرئيسية

 

 

## "حفيف صندل" لأحمد الخميسي: تأملات في الذات والعالم بأسلوب قصصي رفيع

 

في مجموعته القصصية "حفيف صندل"، الصادرة عن دار "كيان" للنشر بالقاهرة، يجسد الكاتب المصري القدير أحمد الخميسي لحظات وجودية دقيقة، مشحونة بتأملات عميقة في الذات والعالم المحيط. لا يقف الخميسي عند حدود الذات الفردية، بل يتجاوزها ليستكشف العلاقات المعقدة بين الفرد والمجتمع، بين الخاص والعام، بين السياسي والعاطفي.


في مجموعته القصصية "حفيف صندل"، الصادرة عن دار "كيان" للنشر بالقاهرة، يجسد الكاتب المصري القدير أحمد الخميسي لحظات وجودية دقيقة، مشحونة بتأملات عميقة في الذات والعالم المحيط. لا يقف الخميسي عند حدود الذات الفردية، بل يتجاوزها ليستكشف العلاقات المعقدة بين الفرد والمجتمع، بين الخاص والعام، بين السياسي والعاطفي.
## "حفيف صندل" لأحمد الخميسي: تأملات في الذات والعالم بأسلوب قصصي رفيع

 في هذا العالم القصصي، يتجاور السياسي مع العاطفي، ويتألم الحب تحت وطأة واقع قاس، وتبرز قدرة المؤلف الفذة على الإمساك بلحظات التوتر التي تبدو عابرة، لكنها تحمل في طياتها تحولات مفصلية. فشخوص قصصه ليسوا مجرد شخصيات فردية معزولة، بل هم أفراد مأزومون بقضاياهم وهمومهم الذاتية، ولكنها في النهاية مشروطة بهموم جمعية أكبر منهم، ملتبسة بشروط سياسية وثقافية واجتماعية ضاغطة، فتبدو الأزمات الشخصية العابرة نتاج أزمات أكبر مرتبطة بالواقع السياسي والاجتماعي وارتباكاته.

 

 

تتألف المجموعة من تسع وعشرين قصة قصيرة

 تتفاوت في الطول وتتنوع في الموضوعات والعوالم، لكن ما يغلب علىقصصها أن البطل غالباً ما يكون رجلاً في مرحلة الشيخوخة، يعاني الوحدة، ويصاحب ذكرياته، ويستعيد أحلام طفولته وشبابه، وما آل إليه مصيره.

  •  أحياناً يجلس في انتظار ما لا يجيء، مثلما ينتظر تواصلاً من حبيبة قديمة
  •  في قصة "ربما". ولكنه في الأحوال متصالح مع وحدته وشيخوخته،
  •  يعيد تأمل ما حوله، حتى إنه يتأمل وحدته ذاتها، ليفهمها ويتصالح معها
  • كما في قصة "نافذة". فالراوي يبدو مشغولاً بتأمل شيخوخته ووحدته،
  •  وهو يجلس وحيداً إلى المنضدة، لا يكسر الصمت سوى رنين المعلقة
  •  بين جنبات القدح الزجاجي، يتطلع إلى الفراغ، ويستمع إلى صوت الذكريات.
  •  لم تعد لديه أحلام، وحده الذكريات. وفي العصر يجلس أمام التليفزيون
  •  يتلفت من وقت إلى آخر إلى هاتفه، لكن لا أحد يتصل، ولا أحد يدق جرس الباب.

 

في خضم هذه الوحدة

 التي يتآلف معها، لا يبقى أمامه سوى النافذة، ليطل منها على العالم، ويتواصل معه، حتى لو كان هذا التواصل هو مجرد الإصغاء إلى عراك تلاميذ المدرسة القريبة نهاراً، ونباح الكلاب ليلاً. في كثير من قصص المجموعة، يتأمل الخميسي -الحاصل على جائزة ساويرس لكبار الكتاب في فئة القصة القصيرة مرتين- ما يكتنف العالم من مفارقات، بعضها يبدو مسكوناً بأبعاد طبقية وسياسية، مثلما نرى في قصة "رأسان". 

  1. يلتقط السارد مفارقة اقتراب رأسَي إنسانين أحدهما من الآخر
  2. وهما اثنان لا يعرف أحدهما الآخر، لم ير أحدهما الآخر من قبل
  3.  جمعتهما لحظة عابرة، وهبة هواء من النيل.
  4.  أحدهما نزيل الفندق الذي يركب سيارته، برأس مرفوع
  5.  ويخامره "شعور خفيف عذب كالنسمة أنه إنسان ذو شأن"
  6. والآخر عامل بالفندق، مهمته أن يفتح باب السيارة مطأطئاً رأسه 
  7. احتراماً للنزيل، وجزء من وظيفته أن "يظل مدة في هذه الوضعية احتراماً وخضوعاً"
  8. كي يهب "نزلاء الفندق ذلك الشعور اللطيف بأنهم أصحاب رفعة ومقام
  9.  لا يليق أن يفتحوا الأبواب بأنفسهم". هكذا تبدو عين الكاتب الخبيرة
  10.  قادرة على التقاط ما في اللحظات العابرة من مفارقات بنيوية
  11.  مشحونة بكثير من الدلالات، وتعرِّي ما يكتنف العالم من زيف ومظهرية.

 

هذه الأبعاد الاجتماعية

 تبدو واضحة من القصة الأولى، التي تحمل المجموعة عنوانها، "حفيف صندل". يسأل الراوي واحداً ممن يمسحون زجاج السيارات، عن مكان المواصلات، ويلمح في وجهه أمارات الفقر والبؤس، ويرتدي أثمالاً بالية وصندلاً (حذاء) ممزقاً يحتكّ بالأرض مُصدراً حفيفاً. يعطيه ورقة نقدية فيتبعه ماسح السيارات ككلب وفيّ، يشرح له مكان المواصلات، وكلما أعطاه الراوي أموالاً أخرى ليصرفه، يتبعه أكثر ويُمعن في الشرح ليأخذ المزيد

  • حتى وصل الراوي إلى المكان الذي يريده، وقتها فقط يعود ماسح السيارات ويتركه.
  •  يتابعه الراوي ببصره حتى يختفي عن نظره، ويُنهي الراوي القصة
  •  بقوله: "فلم يبق سوى صندل، وحفيف قلب يحتكّ بالأرض".
  •  هكذا لم يعد الصندل هو الذي يحتكّ بالأرض، بل القلب الذي انفطر
  • ولا نعرف هل هو قلب الراوي المتعاطف مع فقر الرجل
  • أم ماسح السيارات الذي ينتعل قلبه بدلاً من الحذاء
  • وكلاهما ممزق من فرط الاحتكاك بأسفلت الشوارع.
  •  هنا، تتجسد قدرة الخميسي على تكثيف المعاني 
  • وتجسيد المشاعر في صور لغوية بليغة.

 

إلى جانب ذلك

 يبرز في المجموعة -التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة التي تقدمها الجامعة الأمريكية بالكويت- حضور قوي للنقد السياسي، أحياناً بصورة ساخرة كما في قصة "بطة"، التي تعكس عبثية السلطة وتناقضاتها.

  1.  أو بصورة عبثية كما في قصة "أفندم" التي تحكي قصة سجين سياسي
  2.  وهو عامل بسيط في الأساس، كل ما يهمه أن يعرف سبب سجنه
  3.  حتى يقوله للناس عندما يسألون عنه عقب خروجه من السجن الطويل.
  4.  وحيناً بصورة مفعمة بالشجن كما في قصة "حقول الموت"
  5.  التي تروي قصة رجل فلسطيني تحت القصف الدائم
  6.  ويخشى أن تصيب إحدى الغارات بيته ويموت هو وزوجته وأبناؤه
  7.  فيفكر أن يتبادل الأبناء مع شقيقه الذي يعيش في بيت آخر
  8.  بأن يرسل ابنته لتعيش عند شقيقه، وأن يأتي ابن شقيقه ليعيش معه
  9.  حتى إذا تهدم بيته يظل أحد من نسله في الحياة، وإذا تهدم بيت شقيقه

 يظل أحد من نسل هذا الشقيق، في محاولة لابتكار حيل دفاعية لمواجهة الموت الجماعي. إنها شعرية المقاومة والتحايل على واقع قاسٍ، وتلتقط القصة لحظة وقوف الراوي ممسكاً بيد طفلته تحت بيت أخيه، وهو غير قادر على الصعود لتركها، إذ نرى أزمته الوجودية، وتمزقه بين خيارين كلاهما صعب على نفسه. هنا، يتجلى الحس الإنساني الرفيع للخميسي، وقدرته على الغوص في أعماق النفس البشرية في مواجهة الظروف القاهرة.

 

في قصة "هاربان" تتجلى الهموم السياسية

 أيضاً، ولكن بمعالجة غرائبية، حافلة بالفانتازيا. فالسرد هنا يفارق الواقع ويحتمي بالخيال المسكون بقسوة الواقع السياسي، ممثلاً في الرقابة الشديدة على الكاتب والكتابة. وهي واحدة من أجمل قصص المجموعة، وتدور حول شخصين، لكنهما ليسا شخصين حقيقيين، بل مجرد شخصيتين ورقيتين تعيشان داخل قصة، ويخشيان سطوة الرقابة التي تتبع المؤلفين والأدباء وكتاباتهم، فتقرر الشخصيتان الهرب من القصة قبل أن تقبض عليهما الرقابة

  •  وقبل إيداعهما السجن. تهبطان من القصة عبر السطور
  •  وتقفزان من آخر سطر إلى فضاء الشوارع لتذوبا بين الناس
  •  بعد محو كل ما يخصهما من النص القصصي
  •  تمحوان اسميهما وأوصافهما وجملهما الحوارية ووجهات نظرهما
  • حتى لا تجد السلطات ما يدل عليهما، ولا يمكنها تتبعهما 
  • أو إلقاء القبض عليهما. رغم غرائبية القصة، وبنائها الفانتازي الواضح
  •  فإن إحالتها إلى الواقع الفعلي تبدو باذخة. 
  • وقد عمد الخميسي إلى عدم تحديد مكان أو زمان لهذه القصة،
  •  حتى تبدو صالحة للدلالة على أي واقع استبدادي في أي زمان ومكان.

 

وعلى نهج نجيب محفوظ

 في استلهام روايته الشهيرة "اللص والكلاب" من حادثة حقيقية، يسير الخميسي -الذي قدمه يوسف إدريس كاتباً للقصة للمرة الأولى عام 1968- في استلهام قصة "لحظة حب" من حادثة شغلت الرأي العام في القاهرة لفترة، رغم بساطة الحادثة وسذاجتها. إذ صوّر أحدهم فيديو قصيراً لمراهقَين على أحد الكباري، وقد اختلسا قُبلةً عابرةً، لينتشر الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي

  1.  وتُدمَّر حياة الولد والبنت، لمجرد قُبلة عابرة، في مجتمع يكره الإعلان عن الحب.
  2.  وفي قصة أخرى يكشف الكاتب عن تململ المجتمع من أي علاقة حب
  3.  حتى لو كانت في إطار شرعي وقانوني، كما يحدث في قصة "مشوار"
  4. حين يتحرش سائق ميكروباص لفظياً بشاب وخطيبته، لمجرد أنه يمسك يدها
  5.  معتبراً أنهما يجلبان "النجاسة" لسيارته. هنا، يضع الخميسي يده على جرح عميق
  6.  في المجتمع، ويكشف عن التناقضات الصارخة بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية.

 

تبدو قصص المجموعة كلها كاشفة عن تشوق الراوي

 أو مجموعة الرواة، في مرحلة الشيخوخة، وبعد تجارب ممتدة على مدار العمر، إلى العدل والحب والحرية، بوصفها قيماً كبرى قادرة على إصلاح العالم. وانحياز الكاتب إلى هذه الأنساق القيمية في مواجهة كل ما يتهددها من قيم مضادة، متمسكاً بجماليات السرد وفنيته بوصفه خطاباً فنياً بالأساس، وفكرياً يتوق إلى الحب والتحرر والعدالة. 

الختام

في "حفيف صندل"، يقدم أحمد الخميسي شهادة إبداعية على قدرة القصة القصيرة على استيعاب تعقيدات الواقع، وتجسيد أحلام الإنسان، وتأمل الذات والعالم بأسلوب رفيع يجمع بين العمق والجمال. إنها مجموعة قصصية تستحق القراءة والتأمل، وتؤكد مكانة الخميسي كأحد أبرز كتاب القصة في العالم العربي.


author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent