## تفكيك الحضارة: منطق الهيمنة الجديد في مرآة رولان غوري
في زمن تتصاعد في هنبرات القلق بشأن مستقبل المجتمعات الإنسانية، وتتعالى فيه أصوات التحذير من مخاطر
الانزلاق نحو "التوحش"، يبرز كتاب "نقض الحضارة وتفكيكها، المنطق
الجديد للهيمنة" للمفكر الفرنسي رولان غوري، كتحليل نقدي معمق يغوص في جذور
هذه المخاوف.
![]() |
## تفكيك الحضارة: منطق الهيمنة الجديد في مرآة رولان غوري |
ويقدم تفسيراً مغايراً لما
يشهده العالم من تحولات. لا يكتفي غوري بتشخيص الأعراض الظاهرية للتدهور الحضاري،
بل يتعمق في فهم الآليات الخفية التي تقف وراء هذا التفكيك، مبيناً كيف تحولت هذه
العملية إلى أداة للهيمنة والسيطرة.
ينطلق غوري من تساؤل أساسي
ما الذي نعنيه بمفهوم "تفكيك الحضارة" الذي يتردد صداه اليوم في
الخطاب السياسي والإعلامي؟ وهل هو مجرد نتاج لأفعال همجية فردية، أم أنه يعكس
تحولات عميقة في بنية المجتمعات الحديثة؟ يرفض غوري التفسيرات السطحية التي تربط التدهور
الحضاري بأسباب خارجية، كالعنف المتزايد في ضواحي المدن أو تأثير "أولاد
مدللين" استهتروا بإنجازات الأجداد. بل يرى أن تفكيك الحضارة هو نتيجة منطقية
لمجتمعات تخلت عن ثقافة الحوار، وعطلت عمليات التفكير النقدي، لصالح مجتمع قائم
على الأعراف، يحول الآخر إلى مجرد شريك في لعبة حروب اجتماعية يقاس فيها الفرد
بمدى قوته وسطوته.
- يستند غوري في تحليله إلى مفهوم "تفكيك الحضارة وإزالتها"
- الذي قدمه عالم الاجتماع الألماني نوربرت إلياس
- ويوسع من نطاقه ليشمل الظواهر المعاصرة
- التي تهدد القيم الإنسانية الأساسية.
- لا يعتبر غوري أن تفكيك الحضارة هو مجرد مخلفات من الماضي
- بل هو خطر محدق يهدد كل حضارة
- لا تعترف بإنسانية الآخر وتعدد التعبيرات الثقافية.
**التحولات العميقة في بنية المجتمعات الحديثة**
يركز غوري على التحولات
العميقة التي طرأت على بنية المجتمعات الحديثة، والتي أسهمت في تفكيك الروابط
الاجتماعية وتراجع القيم الإنسانية. من بين هذه التحولات، يشير غوري إلى غياب
ثقافة الحوار وقواعد التعايش وتقبّل الآخر وأفكاره وثقافته واحترام معتقداته، مهما
كانت متناقضة مع أفكارنا ومعتقداتنا. يرى غوري أن هذه الثقافة هي ضرورية لبناء
مجتمعات متماسكة قادرة على مواجهة التحديات المشتركة.
- بالإضافة إلى ذلك، ينتقد غوري تصاعد النزعة الفردية والاستهلاكية
- التي تغذيها وسائل الإعلام وشركات التسويق.
- يرى أن هذه النزعة تشجع على الانعزال والانغلاق على الذات
- وتؤدي إلى
تراجع الوعي الجمعي والإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع.
**الفاشية التكنو-ليبرالية وجه جديد للهيمنة:**
يستعير غوري مفهوم
نوربرت إلياس حول سيرورة الحضارة وتفكيكها، ويقارنه بأعمال هانا آرندت وسيغموند
فرويد، ليلاحظ صعود ما يسميه "الفاشية التكنو-ليبرالية المعاصرة"، ويرى
فيها عناصر مماثلة لتلك التي رافقت صعود النازية في عشرينيات القرن الماضي. يؤكد
غوري أن الثقافة آنذاك كانت التربة الملائمة لنمو الأيديولوجيا القومية والعنصرية،
ولكنها كانت كذلك الملاذ الوحيد للرافضين لهيمنة النازية وفكرها وسيطرتها المطلقة
على الدولة، مما جعلها رمزاً للمقاومة السرية.
- يشير غوري إلى أن "الفاشية التكنو-ليبرالية"
- تستخدم التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة
- للسيطرة على الأفراد والتأثير في سلوكهم.
- تعتمد هذه الفاشية على نشر المعلومات
- المضللة والأخبار الكاذبة
- وتشويه الحقائق، وتضليل الرأي العام.
- كما تستخدم هذه الفاشية أدوات المراقبة والتجسس
- لجمع المعلومات عن الأفراد ومراقبة سلوكهم.
**اللغة كسلاح للهيمنة**
يشدد غوري على الدور
المحوري الذي تلعبه اللغة في عملية تفكيك الحضارة. يرى أن اللغة لم تعد مجرد وسيلةللتواصل والتعبير عن الأفكار، بل تحولت إلى أداة للهيمنة والسيطرة. تستخدم النخب
السياسية والإعلامية اللغة للتلاعب بالرأي العام وتوجيهه نحو أهداف معينة. كما تستخدم
الشركات التجارية اللغة لخلق الحاجات الوهمية وتشجيع الاستهلاك المفرط.
- يستشهد غوري بفرويد وقريبه إدوارد بيرنايز لتوضيح هذه الفكرة.
- يرى أن فرويد عمل على تحرير الناس مما يثبط عزيمتهم
- ليعيشوا ويحبوا تلبية لنداء "إيروس"، بينما عمل بيرنايز
- الذي يعتبر الأب المؤسس للدعاية السياسية والتجارية
- ولصناعة العلاقات العامة التي أسهمت بصورة كبيرة
- في تطوير النزعة الاستهلاكية الأميركية
- في خدمة نوازع الموت أو "ثاناتوس"
- من خلال خداع الناس وحثهم على الاستهلاك.
- يرى غوري أن بيرنايز لم يتبنَّ العدمية فحسب،
- بل أسهم كذلك، من خلال استخدام خاص للغة، في
تفكيك الحضارة.
**المقاومة والتغيير**
في مواجهة هذا الواقع
الجديد، يدعو غوري إلى تبني قراءة نقدية جديدة لوظائف اللغة وإلى إعادة إحياء قوة
الخيال اللغوي في قلب المجتمعات الديمقراطية. يرى أن الوظيفة النقدية للغة تتعرض
اليوم للإفساد بفعل تدفق الأخبار الكاذبة والدعايات الجماهيرية للمحرضين السياسيين
والخطابات التسويقية لصناعات الفراغ والتخمة المعلوماتية المنتشرة على مختلف وسائل
التواصل الاجتماعي.
- يشدد غوري على أهمية تعلم كيفية التحرر
- من هذه الهيمنات الاجتماعية والنفسية
- من خلال إعادة ابتكار ظروف اجتماعية وثقافية جديدة
- تمكن الشعوب من التفكير وتبادل الإحساس المشترك.
- يدعو إلى إعادة بناء الثقة في المؤسسات الديمقراطية
- وتعزيز المشاركة المدنية الفعالة.
**دعوة إلى استعادة الإنسانية**
يقدم كتاب رولان غوري
فهمًا للعالم من خلال نقده لـ "الفاشية التكنو-ليبرالية" والجذور
الرمزية لصعودها، مركزًا على "المنطق الجديد للهيمنة" الذي يعتمد بصورة
أساسية على الوظيفة الرمزية للغة التي تقوم بدور مهم في تشكيل الفرد "المتحضر"
أو "غير المتحضر". ففي مواجهة تدمير الحوار الديمقراطي والأضرار الناجمة
عن السياسات الحكومية في أوروبا، يقف هذا الكتاب كمدافع عن اللغة والفكر النقدي. إنه
نداء لاستعادة الكلمات والأفكار من خلال استعادة إنسانيتنا المصادرة.
- إن كتاب "نقض الحضارة وتفكيكها، المنطق الجديد للهيمنة"
- ليس مجرد تحليل أكاديمي للأوضاع الراهنة
- بل هو دعوة إلى العمل والتغيير.
- إنه دعوة إلى استعادة قيم الحضارة الإنسانية
- وإلى بناء مجتمعات أكثر عدلاً وتسامحاً وإنسانية.
- إنه دعوة إلى استعادة
إنسانيتنا المصادرة.
**كلمة أخيرة**
إن تفكيك الحضارة ليس
قدراً محتوماً، بل هو نتيجة لخيارات نتخذها في كل يوم. من خلال الوعي بالآليات
التي تقف وراء هذا التفكيك، ومن خلال العمل على تغيير هذه الآليات، يمكننا أن نبني
مستقبلاً أفضل لأنفسنا ولأجيالنا القادمة. إن الأمر يتطلب منا جميعاً أن نكون فاعلين
في مجتمعاتنا، وأن ندافع عن قيم الحضارة الإنسانية، وأن نعمل على بناء عالم أكثر
عدلاً وتسامحاً وإنسانية. هذا هو التحدي الذي يواجهنا اليوم، وهذا هو الأمل الذي
يمكن أن يقودنا نحو مستقبل أفضل.