## إعادة اكتشاف جماليات رواية "الحرام": ليوسف إدريس
تُعد رواية "الحرام" ليوسف إدريس،
الصادرة عام 1959، من أهم وأبرز الروايات التي تناولت واقع المجتمع المصري في فترة
ما قبل ثورة 1952.
فقد استطاع إدريس، ببراعة أدبية، أن يُجسّد في هذه الرواية صراعات الإنسان المصري مع الفقر، والتهميش، والظلم الاجتماعي، مُسلطًا الضوء على بعض القضايا المُلحة التي كانت تُقلق المجتمع آنذاك.
## إعادة اكتشاف جماليات رواية "الحرام": ليوسف إدريس |
في كتابه "بناء الرواية: دراسات في الراوي والنوع"، يُسلط الباحث والأكاديمي الدكتور عايدي علي جمعة الضوء على رواية "الحرام" بشكل مُفصل، مُحاولًا إعادة اكتشاف جمالياتها الأدبية ومُناقشة بنيتها السردية وتحليل شخصياتها بشكل عميق.
تُبدأ الرواية بمشهدٍ لافت للانتباه
يعثرأحد الخفراء على جنينٍ حديث الولادة مُخنوقاً على جانب ترعةٍ أثناء قيامه بمهام عمله.
هذا المشهد المُقزّز يُثير تساؤلاتٍ مُقلقة حول هوية أمّ هذا الطفلّ، وسرّ موته
المُفاجئ.
- تبدأ بعدها رحلةٌ مُثيرة للبحث عن حقيقة ما حدث
- حيث يسعى "فكري أفندي"، ناظر العزبة، لكشف ملابسات الجريمة.
- يشكّ فكري في عمال التراحيل الغرباء
- الذين استوطنوا العزبة مؤخراً للعمل في حصاد القطن.
- وتُصبح العديد من نساء هؤلاء العمال
- تحت طائلة الشكّ، خصوصًا بعد اكتشاف حقيقة مفجعة
- عن إحدى هؤلاء النساء المُتزوجات من رجلٍ
مُعرّض للمرض.
تتعرّف الرواية على هذه المرأة المُكافحة، عزيزة
التي أصبحت عبءًا ثقيلًا على زوجها المُريض المُشلّ، حيث اضطرت للتكفّل به
وبيته، مُجبرةً على العمل في حصاد القطن. تُعاني عزيزة من الفقر والعوز المُدقعين،
وتُحاول جاهدةً إيجاد سبل للعيش.
ذات يوم، تُطلب من عزيزة أن تجلب لزوجها ثمرةَ
بطاطا، فتذهب إلى الحقل وتُحاول البحث عنها بمحراثها القديم.
أثناءَ بحثها، يصل "محمد بن قمرين"،
صاحب الحقل، ويُساعدها على إيجاد ما تبحث عنه.
في تلك اللحظة، تقع عزيزة في إحدى حفر الحقل، فيُسرع محمد لمساعدتها،
وفجأةً تجتاحهما الرغبةُ وتُصبح ضحيةً أخرى لخطيئةٍ غير مُقصودة،
تُذكّر عزيزة في تلك اللحظة بذكرى زوجها عندما
كان بصحة جيدة.
نتيجةُ هذه الخطيئةِ هي حملٌ غير مُنتظر، يؤدي
في النهاية إلى فُقدان حياة عزيزة بعد أن تخلّصت من الجنين خوفًا من الفضيحة.
تُجسّد رواية "الحرام"
واقعَ
المجتمع المصريّ خلال تلك الحقبة، وتُسلّط الضوء على ظروف المهمشين،
وعلى الظلم الاجتماعي الذي يُؤثّر على حياة
الناس بشكلٍ مُباشر.
يُبرز عايدي علي جمعة في تحليله للرواية أنّ
حركة السرد العارمة بحثًا عن أمّ الطفل المُخنوق كشفت عن بنيةٍ اجتماعيةٍ خاصة في
بقعةٍ مكانيةٍ في شمال الدلتا.
وتُظهر بداية الرواية مشهد الخفير عبد المطلب
وحده في الترعة الكبيرة، حيث غمر الماء جسده كله، ثمّ تَظهر رأسه،
ثمّ يخرج من الماء عارياً على شاطئ الترعة ليرتدي ملابسه.
يُشبه هذا المشهد جنينًا
في رحم أمه مغمورًا بماء الرحم، ثمّ
يُبدأ بعدها ستر جسده،
مُظهرًا دور اللاوعي السردي في
السرد.
يُشدّد جمعة على أهمية وجود كلمة "الحرام"
في عنوان الرواية، حيث تُصبح
مركز الثقل الذي
يُظهر بوضوح عبر
صفحاتها.
فلا يقتصر فعل التحريم على
الإنجاب سفاحًا والمُخالفة للأعراف
فقط، بل يشمل
معنىً أوسع، وهو الحرام
على المستوى الاجتماعيّ.
ويُشير إلى أنّ
غياب العدالة الاجتماعية،
وتعرّض شريحة من
المواطنين للتّهميش والقمع
والاستعباد يشكّل نوعًا آخر من
"الحرام".
يُشدّد جمعة على أنّ الراوي
في "الحرام" ليس
شخصيةً من شخصيات
الرواية، بل هو
صوتٌ مُفارقٌ يُشبه صوتًا
كونيًّا يُعبّر عن
الأحداث والشخصيات.
فلا
نجد له اسمًا
أو وصفًا ،
بل نُشاهد صوته
وأنّه يُبعدنا عن
صوت "الأنا" المُتضخمة
لِيَجنح بالقصّة إلى
الموضوعية.
تُعدّ "عزيزة" الشخصية
المحورية في الرواية
، لأنّ السرد
يتتبعها منذ البداية.
وإنّ
كان ظهورها الحقيقي
في الرواية قد
جاء بعد صفحات
طويلة، إلّا أنّ حركة
السرد جعلتها في
بؤرة الحدث نتيجة
لبحث كلّ الأطراف
عنها منذ اللحظة
الأولى.
- ويُشير جمعة إلى أنّ السرد انحاز لتلك الشخصية
- بوصفها نموذجًا حياً للمُهمشين
- الذين يُعانون من الفقر والعوز
- ويُلقّون طوال الوقت أسواط القهر
- اللاهبة
على ظهورهم بلا
رحمة.
ويُختتم جمعة تحليله لـ "الحرام"
بالتأكيد
على أنّ السارد العليم
استطاع أن يُعكس
بعض مُفاهيم علم
النّفس المُعاصر في
هذه الرواية ،
من خلال التّركيز
على مُفهوم العلاقة
بين السّلوك و"المُثير" أو "الحافز".
فَحركةُ
محمد بن قمرين
العفية وهو يضرب
بفأسه الأرض باحثًا
عن ثمرة البطاطا
ظهرت كَمثيرٍ حرّك
الرغبة النائمة داخل
عزيزة، فتذكّرت عرامة
جسد زوجها وفحولته
القديمة، وتحوّلت الفأس
إلى مثيرٍ يُستدعي
صورة الذكر وهو
يضرب الأرض كأنّه
يُناجي أنثاه.
واختار السارد العليم هذه الواقعة البسيطة
مدخلاً لإدانة الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي قبل ثورة 1952، من خلال كشف
خطايا المجتمع كله قبل أن يكشف خطيئة امرأة ريفية بسيطة في تلك الحقبة الزمنية.
تُعتبر رواية "الحرام"
نتاجًا أدبيًّا يُقدم
رؤية مُتعمّقة للواقع
الاجتماعيّ و النفسّيّ للإنسان
المصريّ في ذلك
الزمن، وتُسلّط الضوء
على الصّراعات العميقة
التي تُواجه الطبقات
المهمّشة في المجتمع.
فقد استطاع إدريس بنجاح أن يُمزج بين الصّورة الواقعية والنّقد الاجتماعيّ، والدّراسة النفسّية للشخصيات ، ليُقدّم عملًا أدبيًّا قويًا يمتلك قدرة كبيرة على الإثارة والانعكاس على القارئ.