### **دولة المماليك (1250-1517م): عصر القوة والسيادة وحراس الحضارة الإسلامية**
تُعتبر **دولة المماليك**، التي امتدت سيطرتها
على مصر وبلاد الشام والحجاز لأكثر من قرنين ونصف، واحدة من أكثر الدول تأثيرًا في
تاريخ العالم الإسلامي الوسيط. لم تكن مجرد قوة عسكرية أوقفت أعتى الغزوات التي
هددت العالم الإسلامي، بل كانت أيضًا منارة حضارية أضاءت العصور الوسطى بفنونها
وعمارتها وعلومها. إن فهم تاريخ المماليك هو فهم لنقطة تحول حاسمة شكّلت هوية
المنطقة لقرون تالية.
![]() |
### **دولة المماليك (1250-1517م): عصر القوة والسيادة وحراس الحضارة الإسلامية** |
#### **من هم المماليك؟ أصل النشأة والتكوين الفريد**
كلمة "مملوك" تعني في اللغة العربية "المملوك"
أو "العبد"، وهو ما يعكس الأصل الاجتماعي لهذه الطبقة العسكرية. كان
المماليك في الأساس عبيدًا يتم شراؤهم في سن مبكرة من مناطق غير عربية، أبرزها
بلاد القوقاز (الشركس) وأواسط آسيا (القبجاق والترك). لم يكن هؤلاء مجرد عبيد
بالمعنى التقليدي، بل كانوا يخضعون لنظام تربية عسكري صارم ومنظم.
- يتم عزلهم في ثكنات خاصة، مثل قلعة الروضة في القاهرة، حيث يتلقون تدريبًا عسكريًا مكثفًا على
- فنون الفروسية والقتال، بالإضافة إلى تعليمهم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي. كان الهدف هو
- خلق طبقة عسكرية محترفة ومنقطعة الولاء لسيدها السلطان، وغير مرتبطة بالولاءات القبلية أو
- العائلية التي كانت سائدة في المنطقة. بعد إتمام تدريبهم وإثبات ولائهم، كان يتم عتقهم وترقيتهم في
- الرتب العسكرية، ليصبحوا أمراء وقادة في الجيش. هذا النظام الفريد أنتج قادة عسكريين من الطراز
- الرفيع، لكنه حمل في طياته بذور الصراع على السلطة.
#### **قيام دولة المماليك نهاية الأيوبيين وبداية عهد جديد**
ظهر المماليك كقوة مؤثرة في أواخر العصرالأيوبي، حيث شكّلوا العمود الفقري لجيش السلطان الصالح نجم الدين أيوب. وبعد
وفاته أثناء الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع، لعب المماليك دورًا
حاسمًا في هزيمة الصليبيين في معركة المنصورة عام 1250م.
- لكن نقطة التحول الكبرى كانت اغتيالهم للسلطان الأيوبي الأخير، توران شاه. بعد ذلك، نصّب
- المماليك شجر الدر، أرملة الصالح أيوب، سلطانة على مصر، في سابقة تاريخية فريدة. ورغم أن
- حكمها لم يدم طويلاً، إلا أنه مهّد الطريق لزوجها، الأمير المملوكي عز الدين أيبك، لتولي السلطنة
- رسميًا، معلنًا
بذلك قيام **دولة المماليك البحرية**.
#### **العصر الذهبي المماليك البحرية (1250-1382م)**
يُعرف العصر الأول لدولة المماليك بـ "المماليك
البحرية" نسبةً إلى تمركزهم في قلعة الروضة على نهر النيل (البحر). شهد هذا
العصر ألمع سلاطين المماليك وأعظم إنجازاتهم.
**1. الظاهر بيبرس: المؤسس الحقيقي للدولة (1260-1277م)**
يُعتبر الظاهر بيبرس البندقداري المؤسس الفعلي
للدولة وبطلها الأسطوري. قبل توليه السلطنة، كان قائدًا لطلائع الجيش المملوكي في **معركة
عين جالوت** (1260م)، المعركة التي غيرت مجرى التاريخ. فيها، تمكن جيش المماليك
بقيادة السلطان قطز وبيبرس من سحق جيش المغول الذي لا يُقهر، ووقف زحفهم المدمر
نحو مصر وشمال أفريقيا، منقذًا بذلك الحضارة الإسلامية من فناء محقق.
- بعد توليه السلطة، عمل بيبرس على ترسيخ أركان الدولة، فطارد فلول الصليبيين في الشام وحرر
- العديد من مدنهم وحصونهم، كما قضى على طائفة الحشاشين. داخليًا، أحيا الخلافة العباسية اسميًا في
- القاهرة ليعطي شرعية دينية لحكمه، وأنشأ نظام بريد فعال، وبنى الجسور والقناطر، وشيّد المساجد
- والمدارس.
**2. المنصور قلاوون والناصر محمد: ذروة القوة
والازدهار**
واصل خلفاء بيبرس، مثل المنصور قلاوون وابنه
الناصر محمد بن قلاوون، مسيرة القوة والازدهار. استطاع قلاوون طرد الصليبيين من
طرابلس وأنشأ مجمعًا معماريًا ضخمًا في القاهرة لا يزال شاهدًا على عظمته (مجمع
السلطان قلاوون).
- أما فترة حكم السلطان **الناصر محمد بن قلاوون** الثالثة (1310-1341م)، فتُعتبر العصر الذهبي
- لدولة المماليك. تميزت بالاستقرار السياسي، والرخاء الاقتصادي، ونهضة عمرانية وثقافية لا مثيل
- لها. تحولت القاهرة في عهده إلى أكبر وأغنى مدينة في العالم، حيث ازدهرت التجارة والفنون
- والعلوم، وشُيدت
مئات المساجد والمدارس والقصور.
#### **عصر التحديات المماليك البرجية (1382-1517م)**
في عام 1382م، انتقل الحكم إلى المماليك
البرجية، الذين كانوا من أصول شركسية وتمركزوا في أبراج قلعة صلاح الدين بالقاهرة.
شهد هذا العصر تراجعًا تدريجيًا للدولة بسبب مجموعة من التحديات الداخلية
والخارجية:
* **عدم
الاستقرار السياسي:** كثرت الاغتيالات والانقلابات بين الأمراء المماليك، مما أدى
إلى ضعف السلطة المركزية.
* **الأزمات
الاقتصادية:** أدى وباء "الموت الأسود" (الطاعون) في منتصف القرن الرابع
عشر إلى وفاة ثلث سكان مصر والشام، مما تسبب في انهيار الزراعة وارتفاع الأسعار. كما
تأثرت التجارة سلبًا بعد اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح، الذي حوّل
مسار التجارة العالمية بعيدًا عن مصر.
* **الغزو
التيموري:** شكّل غزو تيمورلنك لبلاد الشام في بداية القرن الخامس عشر ضربة قاصمة
للدولة، حيث دمر حلب ودمشق.
#### **الإرث الحضاري الخالد لدولة المماليك**
رغم التحديات، تركت دولة المماليك إرثًا حضاريًا
عظيمًا لا تزال آثاره باقية حتى اليوم، خاصة في القاهرة التي تُلقب بـ "مدينة
الألف مئذنة" بفضلهم.
* **العمارة
والفنون الإسلامية:** بلغ فن العمارة المملوكي ذروة الإبداع. تميزت المنشآت
المملوكية بالضخامة والفخامة والدقة في التفاصيل، مثل استخدام المقرنصات المعقدة،
والزخارف الهندسية والنباتية، والخط العربي الفاخر. ومن أبرز الأمثلة على ذلك **مسجد
ومدرسة السلطان حسن**، الذي يُعتبر لؤلؤة العمارة الإسلامية، ومجمع السلطان
قلاوون، وخان الخليلي.
* **الحياة
العلمية والثقافية:** كانت القاهرة المملوكية مركزًا عالميًا للعلم والثقافة، حيث
لجأ إليها العلماء الفارين من بغداد والأندلس. شهد هذا العصر ظهور مؤرخين كبار مثل
**تقي الدين المقريزي**، الذي وثّق تاريخ مصر بشكل مفصل، ومفكرين مثل **ابن خلدون**
الذي أمضى جزءًا كبيرًا من حياته في مصر. كما ازدهرت العلوم الدينية واللغوية
والطب.
#### **نهاية دولة المماليك الصدام مع القوة العثمانية الصاعدة**
في مطلع القرن السادس عشر، برزت قوة جديدة على
الساحة: الإمبراطورية العثمانية. كان الصدام بين القوتين حتميًا. تفوق العثمانيون
على المماليك بشكل حاسم في تكنولوجيا الأسلحة، حيث اعتمدوا على المدافع والبنادق (الأسلحة
النارية)، بينما ظل المماليك متمسكين بأساليب الفروسية التقليدية.
- في **معركة مرج دابق** شمال حلب عام 1516م، قُتل السلطان المملوكي قانصوه الغوري، وفتحت
- أبواب الشام أمام السلطان العثماني سليم الأول. وفي العام التالي، حُسم الأمر في **معركة
- الريدانية** (1517م) عند أبواب القاهرة. هُزم جيش المماليك بقيادة طومان باي، الذي أُعدم شنقًا
- على باب زويلة، لتنتهي بذلك دولة المماليك كسلطنة مستقلة، وتتحول مصر وبلاد الشام إلى ولايات
- تابعة للإمبراطورية العثمانية.
#### **فى الختام**
مثّلت دولة المماليك ظاهرة فريدة في التاريخ، حيث حكم العبيد السابقون واحدة من أقوى إمبراطوريات عصرهم. كانوا محاربين أشداء حموا قلب العالم الإسلامي من خطرين وجوديين: المغول والصليبيين. وفي الوقت نفسه، كانوا رعاة استثنائيين للفن والعمارة والعلوم، وتركوا وراءهم كنزًا حضاريًا لا يقدر بثمن.
ورغم نهايتهم على يد قوة أكثر حداثة، فإن بصماتهم لا تزال محفورة بعمق
في نسيج القاهرة ودمشق والقدس، شاهدة على عصر من القوة والمجد والجمال.