recent
أخبار ساخنة

## "1970" صنع الله إبراهيم: محاكمة أدبية للحقبة الناصرية

الصفحة الرئيسية

 

##  "1970" صنع الله إبراهيم: محاكمة أدبية للحقبة الناصرية

 

بعد مرور قرابة خمسين عاما على رحيل عبدالناصر، وبعد أن تجاوز صنع الله إبراهيم ثمانين عاما، خاض خلالها معاركه الكبرى والصغيرة، شارك في تنظيمات ومظاهرات وإضرابات واعتصامات، اعتنق مذاهب وأفكارا، تعصب لبعضها (شأن الشباب)، ودفع ثمن ذلك غاليا من سنوات عمره خلف قضبان المعتقل، ومن محاولات خنق موهبته خلف أسوار التجاهل والتضييق، قرر الكاتب الكبير (شأن الشيوخ) أن يلقي الحمل عن كاهله، أن يشارك القراء همه، أن يطرح معهم وعليهم أسئلته حول الحقبة الناصرية، بدلا من أن يقدم لهم إجابات جاهزة ومعلبة، لتكون روايته الأخيرة (1970) نافذة تنفتح للعقل على تلك الفترة الثرية من عمر الوطن، ومن عمر زعيمه الأهم، لتشكل مع روايته (1967) التي طرحها في عام 2017 ، بعد 50 عاما من النكسة، ثنائية لا غني عنها لكل مهتم بالتاريخ أو بالأدب، وربما مراجعة لتلك الفترة برمتها.


##  "1970" صنع الله إبراهيم: محاكمة أدبية للحقبة الناصرية

##  "1970" صنع الله إبراهيم: محاكمة أدبية للحقبة الناصرية



 

«خذلت نفسك وخذلتنا..

 ثم ذهبت، وذهبت معك مقدرات الأمة وآمالها إلي حين» هكذا ختم صنع الله روايته الأخيرة (1970)، مصدرا حكما صارما وقاسيا على زعيم يستحق كثيرا من الرفق وقليلا من التروي عند تناول سيرته، فهل كانت لفترة السجن التي قضاها صنع الله في سجون الستينيات والتي امتدت قرابة خمس سنين دور في إصدار مثل هذا الحكم الصارم .. الصادم؟ وهل كان لانتماء صنع الله الأيديولوجي تأثير على موضوعيته في تناول سيرة الرجل، مثلما حدث في تفسيره مثلا - لأسباب صدام عبد الناصر بالحركة الشيوعية في بدايات الستينيات، حيث اتهمه بالدخول في حرب عبثية ضد الشيوعيين لوقوفهم عقبة أمام حلمه بدولة الوحدة الكبري، التي تضم العراق إلي جانب مصر وسوريا.

 

إن الحقيقة التي يدركها أي قارئ للرواية أن الكاتب قرر منذ البداية عقد محاكمة أدبية (أو سياسية) للحقبة الناصرية، التي اختصرها في العام الأخير من حياة الزعيم، ولعل استخدامه لضمير المخاطب رغم صعوبته في الكتابة الروائية - فهو أقرب وأكثر شيوعا في لغة الشعر وبشكل أقل في القصص القصيرة - يرسخ تلك الفكرة، لكن هنا تجدر الإشارة إلي أن ضمير المخاطب في العمل الأدبي ليس لزاما أن يكون بتلك الحدة أو (الاتهامية)،

 فالكاتب غالبا من يحدد كيفية الاستخدام، ففي قصة (الرحلة) ليوسف إدريس مثلا التي تنبأ فيها بوفاة عبدالناصر- نجد الكاتب يستخدم الضمير نفسه، لكنه هنا يستخدمه بحميمية وعذوبة شديدين، ويتعامل مع المخاطب (جمال عبدالناصر أيضا) بمنطق الابن الذي يخشي علي أبيه لحظة الفقد، ويعجز عن تجاوزها.. هل لفارق السن بين الكاتبين دور؟ فصنع الله كتب روايته وهو في ضعف سن إدريس تقريبا، وهل لوقت الكتابة دور؟ فأن تكتب بعد خمسين عاما من الحدث غير أن تكتب تخوفاتك من وقوعه.. ربما.

 

إن الراوي هنا علي العكس من راوي (الرحلة)- أشبه بالمحقق الذي يصوب للبطل (جمال عبدالناصر) سهام الاتهامات، ويوجه له سيولا من الأسئلة، والحقيقة أن الراوي.. القاضي أو المحقق.. ليس أكثر من صنع الله نفسه، فالرواية تكاد تنقسم بين بطلين: المتكلم (صنع الله)، والمخاطب (ناصر) الذي يجد نفسه غالبا في موقف (المتهم)، كما يمكن عدّ الراوي هو صوتا داخليا لناصر نفسه، أو صوت ضميره الذي يؤنبه أو يقرعه، وإن كان هذا يبدو تصورا (تخيليا) أكثر منه واقعيا أو منطقيا في تناول النص.

 

ورغم تناول الرواية للأشهر التسعة الأخيرة في حياة عبدالناصر

 فإنها تضفر ذلك - من خلال تقنيات «الفلاش باك» و»المونتاج» مع مسيرة حياته كلها، فتتحدث عن طفولته وعلاقاته الأسرية «خلال ذلك اقتصرت العلاقة مع والدتك التي قاربت درجة العشق علي زيارات خاطفة ورسائل بريدية حتي يوم الصدمة وأنت في الثامنة من عمرك. فعندما أتاحت لك الإجازة الدراسية زيارة بيت الخطاطبة، دخلته لتفاجأ بسيدة تعيش فيه، سيدة اسمها عنايات الصحن، وليس فهيمة حماد».

 

كما تشير الرواية إلي بدايات ولوج عبد الناصر دنيا العمل السياسي «.... وأمام صيحات المتظاهرين انطلقت عدة طلقات نارية. وهتفت ضد الإنجليز مطالبا بالجلاء. ثم قُبض عليكَ مع عشرات المتظاهرين».

 

ويتطرق صنع الله لعيد ميلاد عبد الناصر الثاني والخمسين، بداية النهاية والاقتراب من السقوط، فيستحضره أمامه، يتمثله، ويحادثه هنا بلغة مغايرة عن لغة المحقق السائدة عبر العمل «تحاملت علي ساقيك اللتين تعانيان آلاما مبرحة. ولجتَ الحمام تغتسل ووقفت تتأمل وجهك في المرآة: الشيب الذي غزا شعرك من الجانبين، والعينين النفاذتين بمزيجهما الغريب من الأخضر والرمادي واللتين لهما تأثير السحر علي من يتطلع إليهما.. تبدو فيهما أمارات التعب والإنهاك. تفكر في الأخطار التي تواجهك

».

 

لكن هذا الامتداد الزمني

 من الطفولة حتي عام الوفاة - لم يحل دون تركيز صنع الله علي هدفه الأساسي من العمل .. المحاكمة، تلك الصيغة التي فرضها علي الرواية، وفرضت هي عليه بالتبعية لغة محايدة تليق بمنصة القاضي أو المحقق (الكاتب)، وهي لغة يتميز بها صنع الله عموما وربما تشيع في أعماله التي يغلب عليها الطابع التوثيقي، لغة لا تستدعي العواطف والانفعالات ولا تلعب علي المشاعر أو تدغدغها، لكنها مصوبة نحو الهدف دون زخارف أو جماليات شكلية، فالمحقق أو المؤرخ يتحدث عن وقائع محددة دون إحاطتها بصور أو تراكيب لفظية قد تشتت الشهود أو حضور الجلسة (القراء)، وإن كان ذلك لا يعني جفاف اللغة أو جفاءها، فلغة صنع الله تمتلك عناصر قوتها في نفسها.. في اختيار المفردة الأكثر دقة وتأثيرا .. في ترتيب المفردات داخل الجملة الواحدة، أو بناء الجمل واتكاء كل منها علي التي تليها أو تسبقها في بنيان محكم لا يقدر عليه كل أحد.

 

ولأن القاضي غالبا يسعي للعدالة

 دون تغليب لوجهة نظره الشخصية ودون الاستناد لأحكام مسبقة، ولأنه يستند للأوراق والمستندات وشهادة الشهود، لذلك سعي صنع الله بكل جهده لترسيخ هذه الحيادية (رغم استحالتها في حضرة زعيم بحجم ناصر)، وبذل كل طاقته لتوفير الوثائق والمستندات التي تساعد في الوصول إلي الحكم الصحيح (أو الأقرب للصحة) علي بطل الرواية ..المدعي عليه، فاستعان بقصاصات الصحف وما نشرته من أخبار ومقالات خلال تلك الفترة، وما تناولته مذكرات بعض الضباط الأحرار أو الكتب التي تناولت ثورة يوليو بما فيها من أسرار وحكايات، وصنع الله في ذلك يعرف ما يختاره جيدا، فهذه طريقته التي لا يجاريه فيها أحد، والتي استخدمها في العديد من أعماله السابقة (شرف، ذات،

 

1967.... وغيرها)، وهي طريقة تقوم علي (الانتقاء الواعي) ليصنع من المتناثرات التي قد نراها عديمة الجدوي، فسيفساء للوعي - عالية القيمة، ويعرض لنا حالة مصر (المدينة) الغائبة عن وعيها، المنغمسة في لهوها وملذاتها وتردي ذائقتها، كما يعرض لنا في الوقت نفسه مصر الأخري (علي جبهة القتال) التي تواصل المقاومة وتدعم الفدائيين وتخوض معارك الاستنزاف وتواصل بناء قواتها المسلحة من جديد، لكن هل يعني ذلك الجمع بين المتناقضات والأضداد من الكاتب فقط الرصد المحايد، أم أنها محاولة أخري لإدانة ذلك العهد بشكل ما، في إشارة ضمنية إلي أن الجبهة الداخلية عقب النكسة لم تستطع بعد الخروج من انكسارها وتهاويها وتغلغل الفساد والمفسدين فيها (رغم وضوح ذلك وتغافل النظام عنه) ؟

 

لا داعي للتسرع في إصدار الأحكام.. لأن القارئ علي مدي صفحات الرواية يتأكد لديه رغبة صنع الله (المخلصة) في الوصول لحكم عادل، دون التجني علي تلك الفترة، ويتأكد لديه صعوبة ذلك والتباس الأمر علي الكاتب نفسه، فبينما يهاجم ناصر في مواقف عديدة، حيث يخاطبه - مثلا -: «كنتَ تضيق بأي معارضة ولو كانت من أخلص المقربين»، نجد الراوي يبجله ولا يخفي إعجابه أحيانا، حيث يقول: «المشكلة أنك عملاق بين الأقزام.. هل يدركون خطة الأعداء؟ بعضهم يدرك بالتأكيد والبعض الآخر يتعامي والبعض الثالث لا يصدق»، ثم يصف لحظة الوفاة في موضع آخر: «فقدنا عبد الناصر... انهد الركنُ الذي كانت الأمة العربية تلوذ به».

 

لم يمجد صنع الله إبراهيم في تلك الرواية جمال عبدالناصر تمجيدا مبالغا فيه .. ولم يبخسه حقه في الوقت نفسه، لم يضعه فوق مستوي البشر.. ولم يخسف بجهده وعطائه الأرض، لم ينكر إخفاقاته التي تراها كل عين.. ولم ينسف منجزاته التي لا ينكرها إلا جاحد، لم يصنع منه إلها من الحلوي.. ولم يلتهمه، فقط ذاق حلاوته ..دون أن يركع أمامه.

 

إن "1970"

 هي أكثر من مجرد رواية،  فهي مرآة تعكس أحلام وأوهام وتناقضات حقبة بأكملها، حقبة لم تستطع أن تُخرج مصر من صراعاتها الداخلية، ولم تتمكن من تجاوز خسائر النكسة، حقبة تركت وراءها وراثة ثقيلة من الأسئلة والغموض،  وحقبة  يحاول صنع الله إبراهيم  في "1970"  أن يفتح عليها حوارا جديدا،  لا يتضمن إجابات جاهزة،  بل يسعى  لإعادة طرح الأسئلة  بشكل  أكثر وضوحا  وبلا خوف من إغضاب  الرموز.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent