### **"وقائع حارة الزعفراني": رحلة جمال الغيطاني السردية في أعماق القهر والرمز**
في بانوراما الأدب العربي الحديث، تبرز أعمال
قليلة كعلامات فارقة استطاعت أن تعيد تشكيل فهمنا للعلاقة بين السرد والتاريخ
والسياسة. وتعد رواية **"وقائع حارة الزعفراني"** (1976) للروائي المصري
الراحل جمال الغيطاني واحدة من أهم هذه الأعمال، فهي ليست مجرد قصة تُروى، بل هي
ملحمة رمزية عميقة، وصرخة فنية جريئة في وجه القهر، وتشريح دقيق لنفسية مجتمع يقع
تحت وطأة عجز وجودي شامل.
 |
| ### **"وقائع حارة الزعفراني": رحلة جمال الغيطاني السردية في أعماق القهر والرمز** |
- نُشرت الرواية في فترة اتسمت بالانكسار السياسي والاجتماعي في مصر والعالم العربي، لتصبح مرآة
- عاكسة لقلق جيل بأكمله. ومن خلال حبكتها الغرائبية التي تقترب من الواقعية السحرية، استطاع
- الغيطاني أن يبني عالمًا سرديًا فريدًا يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويطرح أسئلة خالدة حول
- السلطة،
والرجولة، والعجز، والإيمان، والخرافة.
#### **ملخص حبكة الرواية لعنة غامضة تهبط على الحارة**
تبدأ الرواية بحدث صادم ومفاجئ يهز أركان "حارة
الزعفراني"، وهي حارة مصرية تقليدية مغلقة على نفسها تمثل نموذجًا مصغرًا
للمجتمع الأكبر. فجأة، وبدون أي مقدمات، يصاب جميع رجال الحارة، من الشباب إلى
الشيوخ، بعجز جنسي كامل وغامض. تتحول الفحولة التي كانت مصدر فخر وقوة إلى مصدر
للخزي والعار. تصبح البيوت مسرحًا للتوترات الصامتة، وتتحول العلاقات الزوجية إلى
صحراء من الجفاف العاطفي والجسدي.
- وسط هذا الشلل الجماعي، تنتشر شائعة بأن هناك رجلاً واحدًا فقط في الحارة لم تصبه اللعنة، لكن
- هويته تظل مجهولة. هذا الاستثناء الوحيد يضيف طبقة جديدة من الهوس والشك، حيث يبدأ الجميع في
- مراقبة الجميع، وتتحول الحارة إلى ساحة للاتهامات المبطنة والبحث المحموم عن هذا "الفحل"
- الخفي،
الذي يمثل في آن واحد الأمل في الخلاص والتهديد للنظام الاجتماعي القائم.
مع تفاقم الأزمة، يلجأ أهل الحارة إلى كل الحلول
الممكنة: من الأطباء الذين يقفون عاجزين أمام الظاهرة، إلى الدجالين والمشعوذين
الذين يجدون في الأزمة فرصة للاستغلال، وصولًا إلى الشيوخ ورجال الدين الذين
يقدمون تفسيرات روحانية. تكشف هذه الرحلة اليائسة عن الهشاشة العميقة للمعتقدات
والبنى الاجتماعية التي كانت تبدو صلبة ومنيعة.
#### **الرمزية العميقة ما وراء العجز الجسدي**
إن عبقرية جمال الغيطاني في **"وقائع حارة
الزعفراني"** تكمن في قدرته على تحويل هذا العجز الجسدي الفردي إلى رمز متعدد
الأبعاد يلامس جوهر الأزمة السياسية والاجتماعية التي كانت تعصف بالمجتمع.
1. **الرمز
السياسي: عجز أمة بأكملها**
الرواية
هي في جوهرها استعارة سياسية قوية. فالعجز الجنسي الجماعي يرمز إلى العجز السياسي
والشعور بالإخصاء الذي عانى منه المجتمع المصري والعربي بعد هزيمة 1967 وما تلاها
من أجواء قمعية. فقدان القدرة على "الإخصاب" و"التكاثر" هو
كناية عن فقدان الأمة لقدرتها على الفعل، على صناعة مستقبلها، وعلى مقاومة الهيمنة
الداخلية والخارجية. الحارة التي فقدت فحولة رجالها هي الوطن الذي فقد إرادته
وقدرته على النهوض. أما السلطة الحاكمة، فهي غائبة وحاضرة في آن واحد؛ غائبة كحل،
وحاضرة كسبب محتمل للعنة من خلال أنظمتها القمعية التي تسلب الأفراد إنسانيتهم
وحيويتهم.
2. **الرمز
الاجتماعي: انهيار بنية الذكورة التقليدية**
تضرب
الرواية بعمق في مفهوم "الرجولة" في المجتمع الشرقي، حيث ترتبط الفحولة
ارتباطًا وثيقًا بالقوة والهيبة والسلطة. عندما يُسلب رجال الحارة هذا المكون
الأساسي من هويتهم، تنهار المنظومة الاجتماعية بأكملها. يصبح الرجل القوي ضعيفًا،
ويفقد "شيخ الحارة" هيبته، وتتغير ديناميكيات القوة داخل الأسر. هذا
الانهيار يكشف عن مدى سطحية وهشاشة تلك المفاهيم التي بُني عليها المجتمع، ويفتح
الباب أمام تساؤلات حول أدوار النساء اللاتي يصبحن الشاهدات والمحركات الخفية
للأحداث.
3. **الرمز
الوجودي: أزمة المعنى واليقين**
يمثل
العجز أيضًا أزمة روحية ووجودية. إنه فقدان "الطاقة الحيوية" التي تدفع
الحياة إلى الأمام. تصبح الحارة مكانًا معلقًا، لا ماضي يُحتفى به ولا مستقبل
يُنتظر. هي حالة من الجمود والموت البطيء. بحث السكان عن علاج ليس مجرد بحث عن حل
طبي، بل هو بحث عن معنى، عن يقين، وعن طريقة لاستعادة الإيمان بالحياة نفسها.
#### **الأسلوب السردي للغيطاني: مزج التراث
بالحداثة**
يتميز أسلوب جمال الغيطاني في هذه الرواية
بقدرته الفريدة على استلهام التراث السردي العربي ودمجه في قالب حداثي.
* **لغة
تراثية:** يستخدم الغيطاني لغة تقترب من لغة الحكايات الشعبية وكتب التراث
والمخطوطات القديمة. هذا الأسلوب يمنح النص وقارًا وعمقًا تاريخيًا، ويجعل من حارة
الزعفراني مكانًا أسطوريًا خارج الزمن.
* **الراوي
العليم:** يعتمد السرد على راوٍ عليم يشبه "الحكواتي" أو المؤرخ، يسجل "وقائع"
ما حدث بدقة ظاهرية، لكنه يترك مساحة واسعة للقارئ للتأويل والتفكير.
* **بنية
دائرية:** تتخذ الرواية بنية دائرية، حيث تبدأ بالأزمة وتستمر في الدوران حولها
دون الوصول إلى حل نهائي واضح، مما يعكس طبيعة الأزمة نفسها التي تبدو بلا مخرج.
وكما أشار الناقد والمفكر الإسباني **خوان
غويتيسولو**، الذي كان من أشد المعجبين بأعمال الغيطاني، فإن "الحدث الذي
يزعزع الوجود الهش لسكان حارة الزعفراني غريب ومقلق". ويرى أن الغيطاني يتحرر
من "أشكال الكتابة المقدسة التي تدغدغ حواس القارئ المعتاد"، مما يجعل أعماله
تتطلب صبرًا وتأملاً لاكتشاف كنوزها، وهذا ما يجعلها خالدة ومؤثرة.
#### **أهمية "وقائع حارة الزعفراني" ومكانتها اليوم**
بعد مرور عقود على صدورها، لا تزال **"وقائع
حارة الزعفراني"** رواية حية وقادرة على إثارة النقاش. إنها ليست مجرد وثيقة
تاريخية لمرحلة معينة، بل عمل فني يتجاوز سياقه الزمني ليخاطب كل المجتمعات التي
تواجه أزمات مماثلة من القمع وفقدان الإرادة.
* **نقد
خالد للسلطوية:** تظل الرواية واحدة من أجرأ الأعمال الأدبية العربية في نقد
الاستبداد وتأثيره المدمر على النفس البشرية.
* **مرجع
في الأدب الرمزي:** تُدرس الرواية في العديد من الجامعات كنموذج استثنائي للرواية
الرمزية والسياسية في الأدب العربي.
* **صلة
وصل مع التراث:** تمثل الرواية جسرًا فريدًا بين التراث السردي العربي وتقنيات
الرواية الحديثة، مما يجعلها عملًا مؤسسًا في مسيرة جمال الغيطاني الأدبية.
**في الختام،**
يمكن القول إن **"وقائع حارة الزعفراني"** ليست مجرد رواية عن أزمة جنسية، بل هي تشريح عميق لأزمة مجتمع بأسره.
إنها عمل أدبي عبقري استطاع من خلاله جمال الغيطاني أن يحول حارة
صغيرة منسية إلى مسرح عالمي تُعرض عليه تراجيديا الإنسان في مواجهة القهر، وفقدان
المعنى، والبحث اليائس عن الخلاص. تظل هذه الرواية شهادة خالدة على قوة الأدب في
فضح المسكوت عنه، وفي طرح الأسئلة الأكثر إيلامًا وقلقًا.