### **ياسمين صلاح وديوان "أقوال سبعة لحق واحد": صرخة الأنوثة الشعرية في وجه عالم بطريركي**
في المشهد الشعري العربي المعاصر، الذي يتسم
بالتنوع والتجريب، تبرز أصوات جديدة تحمل على عاتقها مهمة التعبير عن قضايا
الإنسان الكبرى من منظور شديد الخصوصية. ومن بين هذه الأصوات، تقدم الشاعرة
المصرية ياسمين صلاح في ديوانها "أقوال سبعة لحق واحد" تجربة شعرية لافتة،
تمثل صرخة أنثوية عميقة في مواجهة عالم قاسٍ، وتساؤلات وجودية لا تنتهي. صدر
الديوان عن منشورات "زمكان" ببيروت، ضمن سلسلة "إشراقات" المرموقة
التي يشرف عليها الشاعر الكبير أدونيس، مما يمنحه منذ البداية شهادة جودة
واعترافًا بأهميته.
![]() |
### **ياسمين صلاح وديوان "أقوال سبعة لحق واحد": صرخة الأنوثة الشعرية في وجه عالم بطريركي** |
- إن ديوان "أقوال سبعة لحق واحد" ليس مجرد مجموعة قصائد، بل هو مشروع شعري متكامل يغوص
- في أعماق الذات الأنثوية، متتبعًا مسارها منذ لحظة السقوط الأول من رحم الأم إلى عالم تراه
- "هاوية"، والحياة فيه "سقوطًا مستمرًا". عبر لغة شعرية حادة ومكثفة، ترسم ياسمين صلاح صورة
- ذات محمّلة بإرث ثقيل من القمع التاريخي الموجه ضد الأنثى وجسدها وعواطفها، ذات تصطدم كل
- صباح بقبح العالم وتصارع الزمن والوجود، مستلهمة من الميثولوجيا والتاريخ ما يعينها على فهم
- جرحها الوجودي.
#### **السقوط الأول وبداية المعركة الوجودية**
تبدأ المعركة التي تخوضها الذات الشاعرة معالعالم منذ اللحظة الأولى للوعي. الطفولة هنا ليست زمن البراءة المطلقة، بل هي
المحطة الأولى التي أدركت فيها الذات أن وجودها أشبه بـ"خطأ إملائي"،
خطأ لا يمكن تصويبه أو محوه. تقول الشاعرة في ومضة دالة: **«بكف صغيرة ينطبع عليها
الحبر، استقبلت الحياة كخطأ إملائي»**. هذه الصورة المكثفة تختزل الإحساس بالغربة
والاغتراب عن عالم لم تختر المجيء إليه، والشعور بأن وجودها نفسه يحتاج إلى تصويب
دائم.
- هذا الإحساس يتجذر أكثر في علاقتها بالتاريخ والإرث العائلي، والذي يتجسد في مخاطبتها للأم.
- العتاب الموجه للأم هنا يتجاوز البعد الشخصي ليصبح عتابًا للتاريخ الأنثوي بأسره، تاريخ من الألم
- والدماء المتوارثة عبر
الأجيال. تقول في مقطع كاشف:
**«أمي..**
**أبحث في ذاكرتي**
**لا أجد إلا الدماء**
**فأعرف أن أسلافي لم يورثوني غير الإدانة»**
تتحول الذاكرة الشخصية إلى أرشيف جماعي للوجود،
أرشيف ملوث بالدماء. سواء كانت دماء الحروب البشرية العامة، أو الدماء الخاصة
بالإناث ضحايا القمع الذكوري عبر العصور. تصبح الذات الشاعرة وريثة لوصمة "الإدانة"
المزدوجة: إدانة كونها أنثى في عالم ذكوري، وإدانة كونها إنسانة تحمل عبء تاريخ
دموي لم تصنعه.
#### **الجسد الأنثوي ساحة الصراع بين الداخل والخارج**
من أبرز الثيمات التي يشتغل عليها الديوان هي
ثنائية الداخل والخارج، والتي تتجلى بوضوح في الصراع الدائر على أرض الجسد الأنثوي.
الداخل هو عالم الرقة والنعومة والأحلام الأنثوية، بينما الخارج هو عالم القسوة
والفظاظة والسلطة الذكورية. الجسد هو الحد الفاصل، هو البرزخ الذي يشهد هذا الصدام
العنيف. تصف الشاعرة هذا الانشطار ببراعة:
**«كل ما يدور داخلي أنثوي**
**حتى الأفكار داخلي ترتدي تنانير**
**بينما تخرج على فمي بسيقانها المكشوفة»**
هنا، تتحول الأفكار إلى كائنات أنثوية حية ترتدي
"تنانير"، في صورة تجسد الرقة والحلم. لكن فعل "الخروج" إلى
العالم الخارجي عبر الفم (الكلام) هو فعل كاشف وجريء، أشبه بكشف السيقان. هذا
الجسد يصبح مسرحًا للمعركة؛ الأفكار الأنثوية الحالمة تحاول النفاذ من خلاله للتحقق
في العالم، بينما عنف العالم الخارجي يحاول اختراقه لسحق هذه الرقة. الجسد إذن هو
ساحة حرب، مكان للندوب، وهوية تتشكل وتتهدم بفعل هذا الصراع المستمر.
#### **الزمن كأداة للخراب مفارقة الجعارين والظل الناجي**
إذا كان الجسد هو مكان الصراع، فإن الزمن هو مجاله
الممتد الذي لا يمنح فرصة للانعتاق، بل يعمّق الهاوية الوجودية. تستخدم الشاعرة
استعارة مبتكرة ومثيرة للسخرية المريرة لوصف الزمن، فتقول:
**«الأيام جعارين متشابهة**
**تحمل اللعنة في هيكلها**
**تتدحرج على وجهي**
**وتلتهم أعضائي»**
- تكمن المفارقة في أن "الجعران" في الميثولوجيا المصرية القديمة هو رمز الحظ السعيد والبعث وتجدد
- الحياة. لكن ياسمين صلاح تقلب هذا الرمز على وجهه، فتصبح الأيام "جعارين" تحمل اللعنة لا
- البركة، وتتدحرج على وجه الذات لتلتهم أعضاءها وتفكك جسدها ببطء. استخدام الفعل المضارع
- (تحمل، تتدحرج، تلتهم) يؤكد على ديمومة هذه العملية التدميرية.
وفي خضم هذا التآكل الجسدي والوجودي، تظهر
مفارقة أخرى تتعلق بالظل والأصل. الظل، الذي هو مجرد تابع شبحي للجسد، يصبح أكثر
اكتمالاً من الأصل المتآكل: **«هذا الكامل هو ظلي الناجي / أما أنا بلا سيقان لأقف
على طولي / أو لأتعلم الهرب»**. ينجو الظل لأنه بلا جسد، بلا روح، بلا رغبات،
وبالتالي بلا ألم. إنه يتمتع بطمأنينة ميتافيزيقية تفتقر إليها صاحبته المعذبة،
مما يقودها إلى ذروة اليأس والرغبة في الانسلاخ عن إنسانيتها.
#### **استدعاء الميثولوجيا البحث عن خلاص في الأسطورة والتراث**
إدراكًا منها بأن لعنتها ليست فردية، تلجأ الذات
الشاعرة إلى استدعاء شخصيات ورموز من الميثولوجيا والحكايات والتراث الديني،
وكأنها تبحث في هذا الأرشيف الإنساني عن رفاق درب أو عن عزاء. كل شخصية مستدعاة
تمثل بُعدًا من أبعاد أزمتها:
* **ليليث:**
تخصص الشاعرة قصيدة لـ"ليليث"، وتؤكد في الهامش أنها "أول تمرد على
الذكورية". استدعاء ليليث هو استدعاء لنموذج التمرد الأنثوي الأول، بحثًا عن
مصدر للقوة والإلهام.
* **أليس
في بلاد العجائب وبجماليون:** الإشارة إلى هاتين الشخصيتين تكشف عن الرغبة العميقة
في الهروب من الواقع القبيح وخلق عالم بديل، عالم متخيل يمكن إعادة تشكيله شعريًا
ليخلو من الجروح الوجودية.
* **فُلك
نوح:** تستدعي الشاعرة رمزية الطوفان والخلاص، لكن بنبرة تشاؤمية قاطعة: **«وأرى
في الأفق / فُلك نوح ما زال يُبنى على مهل / وكلنا كلنا لن نلحق به»**. فُلك
النجاة يُبنى، لكنه بعيد المنال، والخلاص يبدو مستحيلًا لهذا الجيل الغارق في
طوفان الوجود. تقنية التكرار في "كلنا كلنا" تؤكد على شمولية هذه
النهاية المحتومة.
#### **التمرد المرجأ وخاتمة الانهزام**
تتماهى الذات الشاعرة مع الطبيعة، التي تراها
مرادفًا للأنوثة وقادرة على التمرد والغضب الحقيقي. فالطبيعة قد **«ملَّت رعونتنا /
حبستنا في جحورنا / صدرها المراهق يصهل لأول مرة»**. لكن هذا التمرد الكوني
للطبيعة يظل بعيدًا عن متناول الذات الشاعرة التي يبدو تمردها فعلاً مؤجلاً ورغبة
غير مكتملة:
**«جرأتي التي لم أمارسها بعد**
**جنوني الذي لم يكتمل»**
- هذا العجز عن تحقيق التمرد الكامل، وعن عيش لحظة خالية من الألم، يصل بالذات الشاعرة إلى قمة
- إحساسها بالأزمة. هنا، تصل إلى استنتاج ثوري في ظاهره، لكنه إعلان تام عن الانهزام في جوهره.
- الحل ليس في المواجهة، بل في التلاشي والتحول إلى كينونة الظل المطمئنة، فتقول: **«نحتاج
- تعديلاً جينياً / لنتحول جميعاً إلى ظلال مطمئنة»**.
إنها دعوة جذرية لإلغاء الذات المعذبة بجسدها ووعيها، والتخلي عن الإنسانية نفسها كوسيلة وحيدة للوصول إلى الطمأنينة. هي ذروة الألم الذي يجعل من العدم أو الشبحية أمنية قصوى.
في الختام
يقدم ديوان "أقوال سبعة لحق واحد" للشاعرة ياسمين صلاح تجربة شعرية ناضجة وقوية، تضع الأنوثة في قلبالصراع الوجودي. عبر لغة جريئة وصور مبتكرة، تنجح الشاعرة في تحويل الألم الشخصي إلى قضية إنسانية جماعية، وتطرح أسئلة عميقة حول معنى الوجود والجسد والذاكرة في عالم يبدو معادياً لكل ما هو رقيق وحالم.
إنه صوت شعري يستحق الإصغاء بعمق، ويضيف
لبنة مهمة إلى صرح الشعر النسوي العربي المعاصر.