عباس محمود العقاد وتحذيره من الأدب المصنوع: رؤية
نقدية في مطالعات في الكتب والحياة
قسم: الكتب
يعتبر عباس محمود العقاد (1889
- 1964) أحد أعمدة الفكر العربي الحديث، ومن القلائل الذين غاصوا في أعماق الفلسفة
الأدبية ليربطوها بالواقع الاجتماعي والسياسي للأمة. في كتابه الشهير «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي
أعادت الهيئة المصرية لقصور الثقافة إحياءه في طبعة جديدة، يطرح العقاد قضية
جوهرية ما زالت تفرض نفسها على الساحة الثقافية حتى اليوم: الفرق بين الأدب المطبوع (الصادق) والأدب المصنوع (المتكلف).
في هذا المقال، سنستعرض
بالتفصيل رؤية العقاد النقدية، وكيف حذر من تحول الأدب إلى أداة للتسلية الفارغة،
وأثر ذلك على نهضة الأمم أو انكسارها.
 |
| عباس محمود العقاد وتحذيره من الأدب المصنوع: رؤية نقدية في مطالعات في الكتب والحياة |
عباس محمود العقاد وتحذيره من الأدب المصنوع: رؤية نقدية في مطالعات في الكتب والحياة
الأدب كرسالة وليس مجرد وسيلة للتسلية
يبدأ العقاد أطروحته
بتفكيك النظرة السائدة لدى البعض تجاه الأدب. فإذا نظر المجتمع إلى الأدب باعتباره
"أداة لهو وتسلية" فقط، فإنه بذلك يحكم عليه بالإعدام المعنوي. يرى
العقاد أن هذه النظرة السطحية تصرف الأدب عن رسالته العظيمة التي تتمثل في:
- فهم النفس البشرية:
الغوص في دوافع الإنسان وصراعاته.
- التعبير الصادق عن الحياة:
نقل صورة الواقع بآلامه وآماله دون تزييف.
وعندما
يسقط الأدب في فخ "التسلية"، فإنه ينحدر إلى "هوة البطالة والفراغ"،
مما يولد حالة من اللامبالاة الجمعية. ويصف العقاد هذا المشهد ببراعة، حيث يصبح
الجمهور كأنه يستمع إلى "طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك"، فلا يحاسبون
الأديب على كذب أو مبالغة، لأنهم في الأصل لا يأخذون ما يقوله على محمل الجد.
الجدلية الكبرى الأدب
المصنوع مقابل الأدب المطبوع
يضعنا العقاد أمام مصطلحين
نقديين في غاية الأهمية:
1. الأدب المطبوع (The Natural Literature)
هو الأدب الذي يتدفق
بعفوية وصدق، نابعاً من تجربة ذاتية عميقة واتصال وثيق بروح الجماعة. هو الأدب
الذي لا يحتاج إلى زينة مستعارة، بل تكمن قوته في صدق معناه وبساطة مبناه.
2. الأدب المصنوع (The Artificial Literature)
هو الأدب الذي يولد في غرف
مغلقة، ويهدف إلى إرضاء فئة معينة (سواء كانت سلطة سياسية أو نخبة اجتماعية). يتميز
هذا النوع بـ:
- التصنع والافتعال:
الاعتماد المفرط على المحسنات البديعية.
- المبالغة والشطط:
تضخيم الصفات في المديح أو الهجاء.
- الخلو من الجوهر:
كلمات براقة تفتقر إلى المعنى الإنساني العميق.
دروس
من التاريخ لماذا هبط الأدب العربي والفرنسي؟
يقدم العقاد قراءة تاريخية
مقارنة لتأكيد وجهة نظره، موضحاً أن انحطاط الآداب يرتبط دائماً بتحولها من "قضية
شعب" إلى "عطية ملوك".
العصر العباسي وتحول الأدب
إلى هدية
يلاحظ العقاد أن الأدب
العربي في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي كان قوياً وصادقاً لأنه كان يعبر
عن الفطرة والواقع. لكنه بدأ في الهبوط في أواسط الدولة العباسية.
- السبب:
تحول الأدب إلى "هدية" تُحمل إلى الملوك
والأمراء لنيل رضاهم.
- النتيجة:
ظهور عيوب "التصنع" مثل التوشيع، والطي
والنشر، والمبالغات الممقوتة، مما أفقد الأدب عذوبته وصدقه.
الأدب
الفرنسي وعصر لويس الرابع عشر
لم يقتصر الأمر على العرب،
فالعقاد يستشهد بالأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر. حيث سادت "الحذلقة"
وغلب الجناس والتورية والكناية المتكلفة.
- المنقذ:
يرى العقاد أن الثورة الفرنسية هي التي انتشلت الأدب من سقوطه،
لأنها أعادت ربطه بشعور الأمة مباشرة، وحررته من قيود الطوائف المتطرفة
والقصور الملكية.
الأدب
والحرية علاقة وجودية
يختتم العقاد رؤيته بربط
الأدب بالحرية. فالأمة التي تطمح للحياة الكريمة والحرية الحقيقية لا يمكن أن
تكتفي بـ "أدب مصنوع". الأدب الحقيقي هو الذي:
- ينمي في النفس الشعور بالكرامة.
- يعزز الرغبة في التحرر.
- يخاطب الوجدان الجمعي للأمة دون وساطة.
إن
رسالة العقاد للأجيال الحالية هي ضرورة تطهير الأدب من "الزيف" والعودة
به إلى رحاب "الحياة"، ليكون مرآة تعكس عظمة الإنسان وطموحاته.
الأسئلة
الشائعة (FAQ)
1. ما هو الفرق بين الأدب
المصنوع والأدب المطبوع عند العقاد؟
الأدب المطبوع هو الأدب
الصادق النابع من الموهبة والفطرة والتجربة الحقيقية، بينما الأدب المصنوع هو
المتكلف الذي يعتمد على المحسنات اللفظية والمبالغات لإرضاء فئة معينة أو للظهور
بمظهر البراعة اللسانية دون عمق.
2. لماذا اعتبر العقاد
العصر العباسي مرحلة هبوط للأدب؟
لأنه في هذا العصر (تحديداً
أواسطه) تحول الأدب من التعبير عن روح الأمة إلى أداة لمنادمة الملوك والأمراء
وتملقهم، مما أدى إلى انتشار "التصنع" والمبالغة على حساب الصدق والمعنى.
3. كيف يؤثر اعتبار الأدب
مجرد "تسلية" على المجتمع؟
يؤدي ذلك إلى تسطيح الفكر،
وانتشار حالة من اللامبالاة تجاه القضايا المصيرية، وفقدان الأدب لدوره التنويري
في فهم النفس البشرية، مما يجعل المجتمع ينظر للأديب كشخص "هازل" لا
يؤخذ كلامه على محمل الجد.
4. ما العلاقة التي وضعها
العقاد بين الأدب والحرية؟
يرى العقاد أن الأدب
الحقيقي هو الذي ينمي شعور الحرية في نفوس الشعوب. فالأمم التي تصلح للحياة لا
يجوز أن يكون لها إلا أدب واحد يتصل بشعورها العام ويحفزها على التحرر والنهضة.
5. ما هو الكتاب الذي
استخلصت منه هذه الرؤية للعقاد؟
هذه الرؤية وردت في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، وهو
كتاب يجمع بين النقد الأدبي والفلسفة الاجتماعية.
خاتمة:
إن تحذير عباس محمود العقاد من "الأدب المصنوع"
ليس مجرد نقد أدبي عابر، بل هو دعوة لليقظة الفكرية. في زمن تتسارع فيه أدوات
النشر وتكثر فيه الكتابات السطحية، نحتاج للعودة إلى معايير العقاد لنفرق بين ما
هو "أدب حقيقي" يبني الأمم، وبين "ضجيج لغوي" لا يترك أثراً
في الوجدان.