### **رسائل إلى سارتر: حينما يكتب الحب الفلسفة والتاريخ**
في بانثيون الأدب العالمي، تحتل "رسائل إلى
سارتر" لسيمون دي بوفوار مكانة فريدة لا تُضاهى. هذا العمل الضخم، الذي نُشر
في جزئين بعد وفاة بوفوار، ليس مجرد مجموعة من المراسلات العاطفية، بل هو وثيقة
تاريخية وفكرية استثنائية تكشف عن واحدة من أكثر العلاقات الفكرية والعاطفية
تعقيدًا وإلهامًا في القرن العشرين: العلاقة بين رائدة النسوية سيمون دي بوفوار،
وفيلسوف الوجودية الأبرز جان بول سارتر.
![]() |
### **رسائل إلى سارتر: حينما يكتب الحب الفلسفة والتاريخ** |
- على مدار أكثر من خمسين عامًا، منذ لقائهما الأول في جامعة السوربون عام 1929 وحتى وفاة
- سارتر عام 1980، شكل هذا الثنائي محور الحياة الفكرية في فرنسا والعالم. لكن خلف شخصياتهما
- العامة كأيقونات فكرية، كانت هناك حياة يومية مليئة بالتفاصيل، والشغف، والغيرة، والنقاشات
- الفلسفية الحادة، والسفر، والالتزام السياسي. كل هذا الأرشيف الإنساني والفكري تم توثيقه بأمانة
- وشفافية مذهلة في هذه الرسائل، التي كتبتها بوفوار بانتظام كلما فرّقتهما الظروف.
#### **من هما سارتر ودي بوفوار؟ أيقونتا الفكر في القرن العشرين**
لفهم عمق هذه الرسائل، لا بد من معرفة كاتبتها
ومتلقيها:
* **جان
بول سارتر (1905-1980):** فيلسوف وروائي وكاتب مسرحي وناشط سياسي، يُعتبر الأب
الروحي للفلسفة الوجودية. أشهر أعماله "الوجود والعدم" و"الغثيان"
و"الوجودية مذهب إنساني". رفض جائزة نوبل في الأدب عام 1964، مؤكدًا على
استقلالية الكاتب. كانت أفكاره حول الحرية والمسؤولية والاختيار حجر الزاوية في
فكر جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية.
* **سيمون
دي بوفوار (1908-1986):** فيلسوفة وروائية وكاتبة مقالات، وتُعد الأم المؤسسة
للموجة الثانية من الحركة النسوية. كتابها الأيقوني "الجنس الآخر" (1949)
يُعتبر إنجيل النسوية الحديثة، حيث حللت بعمق الاضطهاد التاريخي للمرأة. بالإضافة
إلى أعمالها الفلسفية، كتبت روايات هامة مثل "المدعوون" و"دم
الآخرين".
علاقتهما لم تكن تقليدية؛ فقد أقاما "ميثاقًا"
يسمح لهما بالارتباط العاطفي والفكري العميق مع الحفاظ على حريتهما في إقامة
علاقات أخرى "عرضية"، بشرط أن يخبرا بعضهما البعض بكل شيء. هذه الرسائل
هي التطبيق العملي لذلك الميثاق، وهي نافذة نادرة على كيفية عيش هذه العلاقة غير
المألوفة.
#### **أكثر من مجرد رسائل غرامية أبعاد الكتاب المتعددة**
تتجاوز "رسائل إلى سارتر" كونها مجرد
مراسلات بين عاشقين، لتصبح سجلًا متعدد الأوجه يمكن قراءته من زوايا مختلفة:
**1. الحب والفلسفة في بوتقة واحدة:**
كيف يحب الفلاسفة؟ تجيب هذه الرسائل على هذا
السؤال بشكل ملموس. الحب بين سارتر وبوفوار لم يكن مجرد عاطفة، بل كان شراكة فكرية
كاملة. في رسائلها، تشاركه بوفوار مسودات كتبها، وتطلب رأيه، وتناقش أفكاره،
وتنتقد أعماله بحدة وصراحة. كان كل منهما القارئ الأول والناقد الأهم للآخر. تمزج
الرسائل بين تفاصيل الحياة اليومية ("اشتريت حذاءً جديدًا اليوم") والمناقشات
الفلسفية المعقدة حول الوعي والحرية والآخر. نرى كيف كانت أفكار رواية "المدعوون"
تتشكل، وكيف كانت تناقش معه مفاهيم "الوجود والعدم" قبل أن يراها العالم.
هذا التداخل بين الشخصي والفكري هو ما يمنح الرسائل ثراءها وقيمتها الاستثنائية.
**2. شهادة حية على تاريخ فرنسا والعالم:**
تمتد الرسائل من أواخر عشرينيات القرن الماضي
وحتى بداية الثمانينيات، مغطية فترة من أكثر الفترات اضطرابًا في التاريخ الأوروبي.
تقرأ في رسائل بوفوار عن:
* **ثلاثينيات
القرن الماضي:** الأجواء المشحونة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وصعود
الفاشية في أوروبا، والقلق المتزايد بين المثقفين.
* **فترة
الحرب والاحتلال:** تصف بوفوار الحياة في باريس تحت الاحتلال الألماني، والصعوبات
اليومية، وأنشطة المقاومة الفكرية، والنقاشات حول دور المثقف في زمن الحرب.
* **ما
بعد الحرب:** فترة إعادة الإعمار، الحرب الباردة، الانقسامات الأيديولوجية بين
اليسار واليمين، وحرب الجزائر التي أثرت بعمق في وعي المثقفين الفرنسيين.
* **مايو
1968:** تنقل الرسائل أصداء الثورة الطلابية التي هزت فرنسا، والتي كان سارتر أحد
ملهميها الروحيين.
تتحول بوفوار من مجرد عاشقة إلى مؤرخة دقيقة تسجل نبض الشارع الفرنسي والحياة السياسية والفكرية لحظة بلحظة.
**3. سيمون دي بوفوار الرحّالة: عيون فيلسوفة
على العالم:**
سافرت بوفوار كثيرًا، وكانت رسائلها إلى سارتر بمثابة تقارير مفصلة عن رحلاتها. أبرز هذه الرحلات كانت إلى الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر الأربعينيات. تقدم الرسائل تحليلًا عميقًا ونقديًا للمجتمع الأمريكي: انبهارها بالطاقة والحيوية، وصدمتها من النزعة الاستهلاكية، ونقدها اللاذع للعنصرية الممنهجة ضد الأمريكيين من أصل أفريقي.
- كما تروي لقاءاتها مع كبار المفكرين والمثقفين في أسفارها، وتصف انطباعاتها عن بلدان مثل الصين
- وكوبا والبرازيل والاتحاد السوفيتي، مقدمة رؤية فريدة لعالم ما بعد الحرب من منظور فيلسوفة
- وجودية ونسوية.
#### **الأسلوب الأدبي والقيمة الإنسانية**
كُتبت الرسائل بأسلوب رشيق، عفوي، وصادق إلى
أبعد الحدود. لا يوجد فيها تكلّف أو تصنّع. تستخدم بوفوار لغة مباشرة تفيض
بالعاطفة والذكاء. نراها في أقصى حالات ضعفها وقوتها؛ نرى غيرتها، قلقها، فرحها،
وشغفها الفكري. هذا الصدق المطلق يكسر الصورة النمطية للفيلسوف المنعزل في برجه
العاجي، ويُظهر لنا سارتر وبوفوار كبشر عاديين يعيشون الحب، والألم، والأمل،
ويواجهون تحديات الحياة اليومية.
- هذا الكتاب ليس فقط للباحثين في الفلسفة أو الأدب، بل هو لكل قارئ يبحث عن قصة إنسانية عميقة.
- إنه يطرح أسئلة جوهرية لا تزال تتردد أصداؤها اليوم: كيف يمكن بناء علاقة مبنية على الحرية
- والمساواة؟ ما هو دور المثقف في المجتمع؟ وكيف يمكن للمرء أن يعيش حياة أصيلة وملتزمة في
- عالم مليء بالتناقضات؟
#### **لماذا نقرأ "رسائل إلى سارتر" اليوم؟**
في عصر الاتصالات الفورية والرسائل النصية
القصيرة، يعيدنا هذا الكتاب إلى جمال وقوة فن كتابة الرسائل. إنه يذكرنا بأهمية
التفكير المتأني والتعبير العميق عن المشاعر والأفكار. الأهم من ذلك، يقدم الكتاب
نموذجًا ملهمًا للشراكة الفكرية والعاطفية، حيث يكون الحب دافعًا للنمو الفكري
والإبداع المتبادل، وليس قيدًا.
**فى الختام**
"رسائل إلى سارتر" هي أكثر من مجرد
كتاب؛ إنها رحلة عبر نصف قرن من التاريخ والفكر والحب. إنها دعوة مفتوحة للدخول
إلى العالم السري لاثنين من أعظم عقول القرن العشرين، لنرى كيف عاشا، وكيف أحبّا،
وكيف فكّرا، وكيف صنعا معًا إرثًا لا يزال يشكل وعينا حتى اليوم. بقراءتها، لا
نكتشف فقط تفاصيل علاقة سارتر وبوفوار، بل نكتشف أيضًا أجزاء من أنفسنا ومن
تاريخنا الإنساني المشترك.