recent
أخبار ساخنة

### **نظرة النسر الجارح: تشريح نفسي لصناعة الإعلام في رواية فيبي غرينوود "Vulture"**

الصفحة الرئيسية

 

### **نظرة النسر الجارح: تشريح نفسي لصناعة الإعلام في رواية فيبي غرينوود "Vulture"**

 

في قاموس الصحافة الحربية، هناك مصطلح يتجاوز الوصف المهني ليلامس حدود الإدانة الأخلاقية: "النسر الجارح" (Vulture). هذا اللقب لا يُطلق على أي صحافي يغطي النزاعات، بل على ذاك الذي يجد في الخراب والموت مادته الخام، وفي المأساة الإنسانية فرصة للارتقاء المهني. إنه الصحافي الذي يقتات على الجثث، مجازياً وحرفياً، محولاً دمار الأمم إلى سطور في سيرته الذاتية.

في قاموس الصحافة الحربية، هناك مصطلح يتجاوز الوصف المهني ليلامس حدود الإدانة الأخلاقية: "النسر الجارح" (Vulture). هذا اللقب لا يُطلق على أي صحافي يغطي النزاعات، بل على ذاك الذي يجد في الخراب والموت مادته الخام، وفي المأساة الإنسانية فرصة للارتقاء المهني. إنه الصحافي الذي يقتات على الجثث، مجازياً وحرفياً، محولاً دمار الأمم إلى سطور في سيرته الذاتية.
### **نظرة النسر الجارح: تشريح نفسي لصناعة الإعلام في رواية فيبي غرينوود "Vulture"**


### **نظرة النسر الجارح: تشريح نفسي لصناعة الإعلام في رواية فيبي غرينوود "Vulture"**

  •  من هذه التربة الأخلاقية الملغومة، تنطلق رواية فيبي غرينوود الأولى والمذهلة "نسر جارح"، لتقدم
  •  لنا تشريحاً دقيقاً وحاداً ليس فقط لنفسية هذا النوع من المراسلين، بل للمنظومة الإعلامية بأكملها التي
  •  تخلقهم، تحتفي بهم، ثم تتخلى عنهم عندما يحترقون.

تضعنا الرواية في قلب غزة عام 2012، وهي بقعة جغرافية وسياسية مشبعة بالتوتر والألم، وتراها بطلة الرواية، سارة بايرن، المراسلة المستقلة الطموحة، كـ "أرض خصبة" لمستقبلها المهني. بجرأة تصل إلى حد الوقاحة، تعلن سارة أن "هذه الحرب متاحة لمن يجرؤ على اقتناصها". 

هذه العبارة ليست مجرد حوار عابر، بل هي المفتاح لفهم شخصية سارة والنظام الذي تعمل ضمنه. فالحرب بالنسبة لها ليست كارثة إنسانية، بل هي سلعة، فرصة، ومنتج يجب تسويقه ببراعة للحصول على أفضل سعر من صحيفة بريطانية مرموقة.


 **سارة بايرن تجسيد حي للفوضى الطموحة**

 

شخصية سارة بايرن هي الإنجاز الأبرز في رواية غرينوود. إنها شخصية آسرة ومقلقة في آن واحد. ليست شريرة بالمفهوم التقليدي، بل هي نتاج طبيعي لبيئة تتسم بالمنافسة الشرسة والفردانية المطلقة. إنها تعاني من "خلل" جوهري يجعلها "تجسيداً حياً للفوضى". هذا الخلل ليس مجرد سمة شخصية، بل هو آلية بقاء في عالم لا يرحم. طموحها لا حدود له، واستعدادها لتجاوز الخطوط الأخلاقية لا يقل عن ذلك.

 

  • تستمد غرينوود قوة وصفها من تجربتها الشخصية؛ فبعد أن غطت أحداث الشرق الأوسط لصحيفتي
  •  "تيليغراف" و"غارديان"، فإنها لا تكتب عن عالم تخيلته، بل عن واقع عاشته. هذا يمنح السرد
  •  مصداقية مؤلمة. نشعر بحرارة غزة، ورائحة الغبار والدم، ونسمع أزيز الطائرات المسيرة، ونتلمس
  •  التوتر المشحون في كل زاوية.

 ومن خلال عيني سارة، نرى كيف يتحول هذا الواقع المأساوي إلى مجرد خلفية لدراما شخصية ومهنية. إنها تنظر إلى جنازات الضحايا ليس بعين التعاطف، بل بعين المصور الذي يبحث عن اللقطة الأكثر تأثيراً، والكاتب الذي يبحث عن الجملة الأكثر إثارة.

 

**نقد المنظومة الإعلامية المصنع الذي ينتج النسور**

 

لا تكتفي الرواية بتشريح شخصية سارة، بل توجه سهام نقدها اللاذع إلى كامل النظام البيئي الإعلامي. تقدم لنا غرينوود معرضاً للشخصيات التي تشكل هذا العالم: رؤساء التحرير الوقحون الذين يطالبون بقصص أكثر دموية من مكاتبهم المكيفة في لندن، والمصورون الذين تحركهم شهواتهم وغرائزهم بقدر ما تحركهم عدسات كاميراتهم، والصحافيون غريبو الأطوار الذين يجذبهم "البؤس بأبعاده المذهلة" كما يجذب الضوءُ الفراشات.

 

  1. أحد الأمثلة البارزة هو شخصية "المدون الذي يرتدي قبعة كلاسيكية بلون خمري"، وهو نموذج
  2.  للصحافي "الجديد" الذي يرى في الحرب مسرحاً للأداء الشخصي، حيث الأنا أهم من القصة
  3.  والمظهر أهم من الحقيقة. هؤلاء ليسوا مجرد شخصيات ثانوية، بل هم أعمدة الصناعة التي تتغذى
  4.  على المآسي. 

تكشف الرواية ببراعة كيف أن هذه الصناعة، التي تدعي الموضوعية ونقل الحقيقة، تخذل ضحاياها مراراً وتكراراً. فالقصص تُستهلك بسرعة، ويتم الانتقال إلى المأساة التالية دون أي التفاتة حقيقية نحو العدالة أو المساءلة. وكما تشير المراجعة، "لا تزال الحرب تجارة مزدهرة تدر الأرباح على وسائل الإعلام"، وهي حقيقة تجعل من رواية غرينوود عملاً ذا أهمية قصوى في عصرنا الحالي.

 

**تطبيع الفظاعة "جز العشب" في غزة**

 

تمتلك الرواية شجاعة سياسية في تناولها للصراع. ورغم أنها، بحسب المراجعة، توزع المسؤولية بشكل متوازن بين "حماس" وإسرائيل، فإنها لا تتردد في فضح اللغة والممارسات التي تجعل من العنف أمراً روتينياً. المشهد الذي يخبر فيه جنرال إسرائيلي (شخصية قد تكون خيالية لكنها تمثل واقعاً ملموساً) سارة بأن قصف اللحظات الأخيرة قبل وقف إطلاق النار هو "فرصتنا الأخيرة لجز العشب"، هو مشهد صادم في برودته ودقته.

 

  • عبارة "جز العشب" (Mowing the lawn) هي مصطلح عسكري حقيقي يستخدمه بعض المحللين
  •  الإسرائيليين لوصف استراتيجية التعامل مع غزة، والتي تقوم على شن عمليات عسكرية دورية
  •  لتقليص القدرات العسكرية للفصائل الفلسطينية، دون السعي لحل جذري. استخدام غرينوود لهذه
  •  العبارة يكشف عن عمق فهمها للخطاب الذي يحيط بالصراع

 وكيف يتم تطبيع الفظاعة وتحويل القتل والتدمير إلى عملية زراعية أو صيانة دورية. إنها لغة تجرد الضحايا من إنسانيتهم وتحول حياتهم إلى مجرد أعشاب ضارة يجب التخلص منها.

 

**الانهيار الشخصي كمرآة للانهيار الأخلاقي**

 

مع تقدم الأحداث، يبدأ عالم سارة بالانهيار من الداخل والخارج. الخط الفاصل بين حياتها الشخصية والمهنية يتلاشى. مشاهد الاسترجاع (الفلاش باك) عن خلفيتها الشخصية وحواراتها الساخرة مع والدتها، التي تصف حي دولويتش في لندن بأنه "أكثر ضواحي لندن تفاهة وعدوانية"، تضيف بعداً إنسانياً لشخصيتها وتكشف عن الجروح القديمة التي ربما دفعتها إلى هذا المسار المدمر.

 

  • لكن الانهيار الحقيقي يتجلى جسدياً. إصابتها بفيروس الهربس التناسلي ليست مجرد تفصيل طبي، بل
  •  هي استعارة قوية للعدوى الأخلاقية التي أصابت روحها. التقرحات الجسدية المزعجة والهلوسات
  •  التي تعاني منها هي انعكاس مباشر للقبح الذي أحاطت نفسها به واختارت أن تكسب رزقها منه. في
  •  هذه الحالة من التدهور الجسدي والنفسي

 تتخذ سارة قراراً خطيراً، قراراً يجر الكارثة ليس عليها وحدها، بل على آخرين يعتمدون عليها. هنا، تصل الرواية إلى ذروتها المأساوية، مؤكدة أن "النسر الجارح"، في نهاية المطاف، لا يؤذي فريسته فحسب، بل غالباً ما يتسبب في تدمير نفسه ومن حوله.

 

** رواية بمخالب حقيقية**

 

"نسر جارح" ليست مجرد رواية عن الحرب، بل هي رواية عن صناعة الحرب، وعن الأفراد الذين يجدون أنفسهم في قلبها. إنها عمل "ساخر وقاتم"، والسخرية هنا ليست للتخفيف، بل لتعميق الجرح. إنها رواية "تملك مخالب حقيقية" لأنها لا تخشى خدش السطح اللامع للصحافة الدولية لتكشف عن الحقيقة القبيحة تحتها.

فى الختام 

فيبي غرينوود، من خلال بطلتها المعقدة والمضطربة، تجبرنا على طرح أسئلة غير مريحة: ما هو الثمن الحقيقي للقصة الصحفية؟ ومن يدفع هذا الثمن؟ وهل يمكن للإنسانية أن تنجو في بيئة تجعل من الموت سلعة ومن الطموح مرادفاً للتخلي عن المبادئ؟ "نسر جارح" هي رواية جريئة وضرورية، تترك أثراً عميقاً في نفس القارئ، وتجعله ينظر بعين الشك والريبة إلى كل صورة وكل خبر يأتينا من "أكثر بقاع العالم خراباً".

 

---

*صدرت رواية "نسر جارح" (Vulture) لـ فيبي غرينوود عن دار النشر "يوروبا إيديشن" (Europa Editions) في الثالث من يوليو 2025، وتباع بسعر 16.99 جنيهاً إسترلينياً.*

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent