recent
أخبار ساخنة

### **رواية "بريد": تشريح نفسي في برزخ الرعب والواقعية**

الصفحة الرئيسية

 

### **رواية "بريد": تشريح نفسي في برزخ الرعب والواقعية**

 

في المشهد الأدبي العربي المعاصر، الذي يميل بشكل متزايد نحو استكشاف أعماق النفس البشرية وأكثر زواياها عتمة، تبرز رواية "بريد" للكاتبة المصرية نسمة عاطف كعمل فارق، لا يكتفي بتقديم جرعة من الرعب التقليدي، بل يغوص في تجربة سردية معقدة وذكية.

في المشهد الأدبي العربي المعاصر، الذي يميل بشكل متزايد نحو استكشاف أعماق النفس البشرية وأكثر زواياها عتمة، تبرز رواية "بريد" للكاتبة المصرية نسمة عاطف كعمل فارق، لا يكتفي بتقديم جرعة من الرعب التقليدي، بل يغوص في تجربة سردية معقدة وذكية.
### **رواية "بريد": تشريح نفسي في برزخ الرعب والواقعية**


### **رواية "بريد": تشريح نفسي في برزخ الرعب والواقعية**

  •  تتخذ من البنية الرسائلية هيكلاً لها، ومن الصراع الأزلي بين العلم والميتافيزيقا محركاً لأحداثها. إنها
  •  ليست مجرد رواية تُقرأ، بل هي ورطة فكرية ونفسية يُدعى القارئ للولوج إليها، وهو يعلم أن
  •  الفضول قد يكون ثمنه راحة باله.

**البنية الرسائلية نافذة على الجحيم الشخصي**

 

تعتمد الرواية بشكل كلي على الشكل الرسائلي (Epistolary Novel)، وهو اختيار بنائي عبقري يخدم أهدافها السردية والنفسية على عدة مستويات. فمن خلال سلسلة من عشر رسائل موجهة إلى الطبيبة النفسية "نوارة"، يتحول القارئ من مجرد متلقٍ سلبي إلى شريك في عملية التلصص.

  •  نحن لا نقرأ قصة تُروى لنا، بل نقرأ وثائق شخصية، اعترافات حميمة، وصرخات استغاثة لم تكن
  •  موجهة إلينا في الأصل. هذا الشعور بالتطفل يضفي على التجربة بعداً من الواقعية المزعجة، ويجعلنا
  •  في موقع الدكتورة نوارة تماماً: فضوليون، مرتبكون، ومحملون بعبء المعرفة.

 

كل رسالة هي بمثابة حالة دراسية منفصلة، عالم قائم بذاته من الألم والجنون. استخدام هذا الشكل يسمح للكاتبة باستعراض بانوراما واسعة من المخاوف الإنسانية دون الحاجة إلى حبكة تقليدية متصلة. فكل خطاب يحمل "مصيبة أشد ظلاماً من سابقتها"، ناقلاً إيانا من هوس الاستحواذ المدمر، إلى جنون العشق القاتل، مروراً بأشباح الماضي التي ترفض أن تموت، واللعنات التي تسري في العروق، وصولاً إلى عالم الجن والشياطين الذي يهدد بنسف كل ما هو منطقي.

 الكلمات هنا ليست مجرد حبر على ورق، بل هي "كلمات سامة تغرس مخالبها في لحم مخاوفك"، كما يصفها العمل نفسه، مما يجعل فعل القراءة تجربة حسية ومؤلمة.

 

**الصراع المركزي العقل في مواجهة الماورائيات**

 

يكمن قلب الرواية النابض في الصراع الفكري الذي تجسده بطلتها الدكتورة نوارة. هي تمثل العقل، العلم، والمنهج التحليلي. كطبيبة نفسية، وظيفتها هي تفكيك السلوكيات الشاذة وردها إلى أسبابها القابلة للتشخيص: اضطرابات نفسية، أوهام، هلاوس، أو صدمات مكبوتة. إنها العدسة العلمية التي من المفترض أن تبدد ظلام الخرافة.

 

  1. لكن الرسائل التي تصلها تتحدى هذا المنهج بشكل ممنهج وعنيف. القصص التي يرويها المرسلون
  2.  بصدقها وأصالتها المؤلمة، تبدو أحياناً أكبر من أن تُحتوى داخل إطار تشخيصي بحت. هنا يبرز
  3.  السؤال الذي تطرحه الرواية على بطلتها وعلى القارئ معاً: أين ينتهي علم النفس ويبدأ ما هو خارق
  4.  للطبيعة؟ هل كل ما لا نفهمه هو محض وهم؟ أم أن هناك حقائق أخرى، مظلمة وقديمة، تعمل خارج
  5.  نطاق قوانيننا العلمية؟

 

هذا الصراع لا يبقى نظرياً، بل ينعكس على حالة الدكتورة نوارة نفسها. فمع كل رسالة تفتحها، تتآكل قناعاتها تدريجياً، وتتسرب إليها عدوى الشك والريبة. هل أصحاب هذه الرسائل مجانين حقاً، أم أنهم ضحايا لقوى حقيقية لا يمكن تفسيرها؟ وهل تحول اهتمامها المهني إلى فضول خطير قد يجرها هي شخصياً إلى نفس الدائرة من الرعب؟ تصبح نوارة مرآة للقارئ، الذي يبدأ بتحليل كل قصة بعقلانية، ثم يجد نفسه، شيئاً فشيئاً، يتساءل عما إذا كانت هناك تفسيرات أخرى أكثر إثارة للقلق.

 

**كاتالوج المخاوف الإنسانية**

 

تنجح "بريد" في كونها أكثر من مجرد قصة رعب واحدة؛ إنها أشبه بموسوعة مصغرة للمخاوف البشرية العميقة. كل رسالة تفتح باباً على نوع مختلف من الفزع:

*   **فزع فقدان العقل:** الخوف من ألا تعود قادراً على التمييز بين الحقيقة والوهم، وهو ما يتجلى في قصص الجنون والهلاوس.

*   **فزع الحب المتحول:** استكشاف كيف يمكن لأسمى العواطف الإنسانية، كالحب، أن يتحول إلى هوس مرضي، استحواذ خانق، وغيرة مدمرة تقود إلى أفعال شنيعة.

*   **فزع الماضي:** الأشباح هنا ليست بالضرورة كائنات أثيرية، بل هي أيضاً ذكرياتنا، أخطاؤنا، وذنوبنا التي ترفض أن تبقى مدفونة، وتعود لتطاردنا في حاضرنا.

*   **فزع المجهول المطلق:** قصص الجن واللعنات تمثل الخوف البدائي مما هو خارج عن سيطرتنا وفهمنا تماماً، الخوف من قوى غيبية تحكم مصائرنا دون أن نملك سبيلاً لمقاومتها.

 

ما يجعل هذا الرعب فعالاً هو أنه "رعب هادئ ومثير في آن واحد". لا تعتمد الكاتبة على المفاجآت الصادمة (Jump Scares) بقدر ما تعتمد على بناء جو من التوتر النفسي الخانق الذي يتسلل إلى وعي القارئ ويستقر فيه طويلاً بعد الانتهاء من القراءة. الرعب هنا فكري، وجودي، ينبع من الأفكار التي تثيرها القصص لا من الأحداث نفسها.

 

**دعوة للقراءة أم تحذير؟**

 

إن التوصيف الترويجي للرواية بأنها "ورطة لا تريدها أبداً" وبأن "الفضول يقتل بعض القطط" هو جزء لا يتجزأ من التجربة. إنه يضع القارئ أمام خيار واعٍ. أنت لا تتعثر في هذه الرواية بالصدفة؛ أنت تختار أن تفتح هذه الرسائل المحرمة، مدفوعاً بنفس الفضول الذي حرك الدكتورة نوارة. بهذا، تصبح مسؤولاً عن القلق الذي سيصيبك. الرواية تلعب بذكاء على هذه الغريزة الإنسانية، غريزة الرغبة في معرفة الأسرار، حتى لو كانت مؤذية.

 

في الختام

 "بريد" هي أكثر من مجرد رواية رعب ناجحة. إنها عمل أدبي ذكي يقدم تجربة قراءة طبقية، قابلة للتأويل والتفكير. هي دعوة لاستكشاف الحدود الضبابية بين العقل والجنون، بين الواقع والخيال، وبين التحليل النفسي والإيمان بالماورائيات.

 نسمة عاطف لا تقدم إجابات سهلة، بل تترك القارئ معلقاً في حالة من الشك اللذيذ والمقلق، يتساءل عن طبيعة الحقيقة، وعن الأصوات الهامسة في الظلام، وعن الرسالة التالية التي قد تصل إلى "بريد" عقله الباطن. إنها رواية تليق بالقراء الذين لا يبحثون عن إجابات، بل عن الأسئلة الصحيحة والمخيفة.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent