### **في رحاب "وما تهوى الأنفس": حين تكتب الأقدار قصص الحب والسند**
في محيط الأدب العربي المعاصر، تبرز أعمالٌ لا
تكتفي بسرد حكاية عابرة، بل تغوص في أعماق النفس البشرية لتستكشف أعقد تجلياتها
وأسمى مشاعرها. يأتي كتاب "وما تهوى الأنفس" للكاتبة زينب سعيد القاضي
كأحد هذه الأعمال التي تتجاوز حدود القصة الرومانسية التقليدية، لتقدم ملحمة
إنسانية متكاملة الأركان، ترتكز على ثلاثية متينة: الأقدار التي ترسم المسارات،
والحب الذي يلونها، والسند الذي يحصّنها ضد عواصف الزمن.
![]() |
### **في رحاب "وما تهوى الأنفس": حين تكتب الأقدار قصص الحب والسند** |
- إنها ليست مجرد رواية، بل هي مرآة تعكس كيف تتشابك خيوط الحياة لتنسج لوحة بديعة من اللقاءات
- غير المتوقعة والروابط التي تتحدى المنطق أحيانًا، لتؤكد في النهاية أن الإنسان، في جوهره، كائنٌ
- وُجد ليُحِب ويُسَنَد.
#### **أولاً الأقدار... المايسترو الخفي الذي يجمع الشتات**
تستهل الرواية رحلتها من فكرة محورية وعميقة: القدر.
لا تقدمه الكاتبة كقوة قاهرة وجبرية تسلب الإنسان إرادته، بل كمهندسٍ بارعٍ يرصف
الطرق ويضع الإشارات في منعطفات الحياة، تاركًا للشخصيات حرية السير فيها
واكتشافها. إن مفهوم "جمع القلوب بغير ميعاد" هو حجر الزاوية في هذا
البناء السردي. فاللقاءات الأولى بين الشخصيات لا تأتي نتيجة تخطيط مسبق، بل هي
وليدة صدف محسوبة بدقة إلهية، كأنها قطع متناثرة من أحجية عملاقة، لم يكن أصحابها
يدركون أنهم جزء منها حتى وُضعت كل قطعة في مكانها الصحيح.
- تتجلى عبقرية الطرح في كيفية تصوير هذه الأقدار. إنها ليست مجرد لقاء عابر في مقهى أو اصطدام
- في شارع، بل هي سلسلة من الأحداث الصغيرة، التي قد تبدو تافهة في حينها، لكنها تتراكم لتصنع
- لحظة فارقة. قرارٌ بتغيير مسار، رحلةٌ لم تكن في الحسبان، أو حتى محنةٌ قاسية، كل هذه العوامل
- تعمل كعوامل مساعدة توجه الأرواح التائهة نحو بعضها البعض. وبهذا، تعلمنا الرواية أن نرى
- الحكمة في كل ما يحدث لنا، وأن نثق بأن خلف كل تعثر أو تأخير قد يكمن موعدٌ مع قدرٍ جميل لم
- يحن أوانه بعد.
تتفوق الكاتبة في جعل هذا المفهوم الفلسفي ملموسًا وحيًا عبر شخصياتها. نراهم يتخبطون، يخططون لمستقبلهم، ثم تأتي الحياة لتفاجئهم بمسار آخر، ليجدوا أنفسهم في نهاية المطاف في المكان الذي كان يجب أن يكونوا فيه، مع الأشخاص الذين كُتب لهم أن يكملوا معهم الطريق. إنها رسالة قوية تبعث على الطمأنينة: لست وحدك من يخطط لحياتك، فهناك عناية خفية ترتب لك لقاءاتٍ ستكون هي المنعطف الأجمل في رحلتك.
#### **ثانيًا الحب بشتى معانيه... ما وراء النظرة الأولى**
إذا كانت الأقدار هي التي تضع الشخصيات على نفس
الدرب، فإن الحب هو النور الذي يضيء هذا الدرب ويكشف عن جماله. لا تحصر الرواية
الحب في قالبه الرومانسي الضيق المتمثل في الانجذاب العاطفي بين رجل وامرأة فحسب،
بل تحتفي به كقوة كونية شاملة تتخذ أشكالًا متعددة. إنه "الحب بشتى معانيه"؛
حب الأصدقاء الذي يشكل شبكة أمان، وحب العائلة الذي يمثل الجذور الضاربة في الأرض،
والمودة والرحمة التي تنشأ بين النفوس المتآلفة لتصبح أساسًا لعلاقات أبدية.
- تُظهر الكاتبة نضجًا عميقًا في فهمها للحب، حيث تصوره كرحلة نمو وتطور. يبدأ الحب شرارة، لكنه
- لا يبقى كذلك. لكي يستمر، لا بد أن يتحول إلى ممارسة يومية من التفهم والاحتواء والتضحية.
- شخصيات الرواية لا تقع في حب نسخ مثالية من الآخرين، بل تقع في حب الإنسان الحقيقي بكل ما
- يحمله من ندوب ونقاط ضعف وقصص ماضية. الحب هنا ليس حالة، بل هو قرار واعي بأن تكون
- الستر
والغطاء، وأن تقبل الآخر كما هو، وأن تعمل معه ليصبح كليكما نسخة أفضل من نفسه.
إن هذا التصوير العميق للحب يجعله واقعيًا
وملهمًا. فهو ينتقل من فكرة "وما تهوى الأنفس" بمعنى الشهوة والرغبة
العابرة، إلى معناها الأسمى في "سكن النفوس" وطمأنينتها. الحب الحقيقي،
كما تقدمه الرواية، هو ذلك الذي يجعلك تشعر بأنك في وطنك، هو ذلك الشعور بالأمان
الذي يغمرك حين تعلم أن هناك من يفهم صمتك قبل كلماتك، ويقرأ حزنك خلف ابتسامتك.
#### **ثالثًا العون والسند... درع الروح في مواجهة المِحن**
هنا تصل الرواية إلى ذروة رسالتها الإنسانية. فما
قيمة الأقدار التي تجمعنا والحب الذي يوحدنا إن لم يترجم ذلك إلى فعلٍ ملموس في
أوقات الشدة؟ تؤكد الكاتبة بإلحاح على فكرة أن نكون "عونًا وسندًا في حياة
بعضنا البعض". فالحياة، بطبيعتها، مليئة بالمِحن والتحديات، ولا يمكن لأي
إنسان، مهما بلغت قوته، أن يواجهها منفردًا.
- تنسج الرواية مواقف درامية تضع شخصياتها في قلب العاصفة، لتختبر متانة روابطهم. في هذه
- اللحظات العصيبة، لا يعود الحب مجرد كلمات رقيقة أو نظرات حانية، بل يتحول إلى أفعال حقيقية
- كتفٌ تتكئ عليه، يدٌ تمتد لتنتشلك من عثرتك، وعقلٌ يشاركك التفكير في إيجاد مخرج. السند هنا ليس
- مجرد مواساة عاطفية، بل هو دعم عملي ونفسي ومعنوي. إنه الإيمان بقدرات من تحب حين يفقد هو
- الإيمان بنفسه، والدفاع عنه في غيابه، والوقوف إلى جانبه حين يتخلى عنه الجميع.
وتأتي عبارة "قبل فوات الأوان" لتضيف
بعدًا من الإلحاح والمسؤولية. إنها جرس إنذار يذكرنا بأن الدعم المؤجل يفقد قيمته.
فالمحنة لا تنتظر، والجرح الذي لا يُضمد في حينه قد يترك ندبة غائرة. تدعونا
الرواية إلى أن نكون حاضرين، منتبهين لإشارات من حولنا، وألا نتردد في تقديم
المساعدة خشية أن نكون عبئًا أو أن نُقابل بالرفض. ففي كثير من الأحيان، تكون
المبادرة بتقديم السند هي طوق النجاة الذي ينتظره أحدهم بصمت. هذا هو جوهر
العلاقات الإنسانية الناجحة: أن تكون شبكة أمان للآخرين، وأن تسمح لهم بأن يكونوا
شبكة أمانك.
** سيمفونية متكاملة للحياة**
في النهاية، يمكن القول إن كتاب "وما تهوى الأنفس" ليس مجرد قصة حب، بل هو سيمفونية متكاملة تعزف على أوتار الوجود الإنساني. إنه عمل يذكرنا بأن حياتنا ليست سلسلة من الأحداث العشوائية، بل هي نسيج متقن تحيكه الأقدار.
- ويذكرنا بأن الحب ليس مجرد شعور، بل هو التزام ومسؤولية ونضج. والأهم من كل ذلك، أنه يصرخ
- في وجه الفردانية والعزلة التي تغزو عالمنا الحديث، ليؤكد أن قوتنا الحقيقية تكمن في تكاتفنا، وفي
- قدرتنا على تحويل علاقاتنا إلى حصون
منيعة في وجه تقلبات الحياة.
فى الختام
تقدم زينب سعيد القاضي، من خلال هذا العمل،
خارطة طريق للقلوب الباحثة عن المعنى، مؤكدة أن ما تهواه النفس حقًا ليس المتع
الزائلة، بل هو ذلك الشعور العميق بالانتماء والأمان الذي لا نجده إلا في كنف قدرٍ
جمعنا بمن نحب، وفي ظل حبٍ يجعلنا سندًا وعونًا "قبل فوات الأوان".