### **علم السلوكيات: من بريق الشهرة إلى أزمة الثقة.. كيف أعادت فضيحة كبرى تشكيل حقل علمي بأكمله؟**
في مطلع الألفية الثالثة، بزغ نجم علم السلوكيات
ليصبح واحداً من أكثر الفروع العلمية جاذبية وتأثيراً في الثقافة الشعبية
والسياسات العامة. قدم هذا الحقل وعوداً براقة: فهم أعمق للقرارات الإنسانية غير
العقلانية، وتقديم "دفعات" بسيطة (Nudges) قادرة على تحسين كل شيء، من الصحة العامة إلى الادخار للتقاعد.
### **علم السلوكيات: من بريق الشهرة إلى أزمة
الثقة.. كيف أعادت فضيحة كبرى تشكيل حقل علمي بأكمله؟**
### **علم السلوكيات: من بريق الشهرة إلى أزمة
الثقة.. كيف أعادت فضيحة كبرى تشكيل حقل علمي بأكمله؟**
- تحول أكاديميون مثل دانيال كانيمان، وريتشارد ثالر، ودان أرييلي إلى ما يشبه نجوم الروك، بكتبهم
- التي تصدرت قوائم الأكثر مبيعاً ومحاضراتهم الملهمة على منصات مثل "تيد" (TED). لكن خلف
- هذا البريق، كانت تتشكل أزمة عميقة، أزمة منهجية وأخلاقية هددت بزعزعة أسس الحقل بأكمله،
- وبلغت ذروتها في فضيحة مدوية كشفت عن الخبايا وأجبرت العلماء على مواجهة الحقيقة: لقد حان
- وقت الإصلاح
#### **العصر الذهبي صعود "علم البوب" السلوكي**
كانت الفترة الممتدة من عام 2000 إلى 2012
بمثابة عصر ذهبي. نجح علماء السلوك في تبسيط مفاهيم معقدة من علم النفس والاقتصاد
وتقديمها في قوالب سهلة الهضم. كتاب "الحث السلوكي" (Nudge) لريتشارد ثالر وكاس سنستين، شرح كيف يمكن لتغييرات طفيفة في "بنية
الاختيار" أن توجه الناس نحو قرارات أفضل دون تقييد حريتهم. أما كتاب "فريكونوميكس" (Freakonomics) لستيفن ليفيت وستيفن دوبنر، فقد طبق المبادئ الاقتصادية على ظواهر
اجتماعية غير متوقعة، مقدماً رؤى ممتعة ومثيرة للجدل.
- كانت جاذبية هذه الأفكار تكمن في بساطتها وقابليتها للتطبيق الفوري. سارعت الحكومات في جميع
- أنحاء العالم، وعلى رأسها المملكة المتحدة والولايات المتحدة، إلى إنشاء "وحدات الدفع السلوكي"
- لتطبيق هذه النظريات على السياسات العامة. كما تبنت الشركات الكبرى هذه المبادئ لتحسين
- استراتيجياتها التسويقية وإدارة الموارد البشرية. وفي هذا السياق، أصبح الحصول على نتيجة بحثية
- "جذابة" ومفاجئة هو تذكرة العبور نحو الشهرة، والتمويل، والوظائف المرموقة. لقد خلق هذا السباق
- نحو الإثارة بيئة خصبة للممارسات البحثية
المشكوك فيها.
#### **الشقوق في الجدار أزمة القابلية للتكرار والخطايا المنهجية**
بدأت المشكلة تتضح عندما حاول باحثون آخرون
تكرار بعض التجارب الشهيرة التي بنت عليها هذه النظريات شهرتها. كانت النتائج
مخيبة للآمال، وفي كثير من الأحيان، فشلت الدراسات المكررة في التوصل إلى نفس
النتائج الأصلية. عُرفت هذه الظاهرة بـ "أزمة القابلية للتكرار" (Replication
Crisis)، والتي
لم تقتصر على علم السلوكيات بل طالت علم النفس والطب أيضاً.
كشفت هذه الأزمة عن "خطايا منهجية" كانت
متفشية في الحقل، مدفوعة بضغوط النشر والحصول على نتائج إيجابية. من أبرز هذه
الممارسات:
1. **التحايل
على قيمة P (P-Hacking):** وهو مصطلح يصف قيام الباحث بتحليل بياناته بطرق متعددة، وتجربة
متغيرات مختلفة، حتى يجد علاقة ذات دلالة إحصائية (P-value < 0.05)، ثم يقدم هذا الاكتشاف كما لو كان فرضيته الأصلية. إنه
أشبه بتعذيب البيانات حتى تعترف بشيء ما.
2. **تقطيع
السلامي (Salami Slicing):** يقوم الباحث بإجراء دراسة واحدة تحتوي على عدة متغيرات، ثم
ينشر نتائج كل متغير في ورقة بحثية منفصلة، وكأنها دراسات مستقلة. هذا يضخم من
سجله الأكاديمي، لكنه يضعف القوة الإحصائية لكل نتيجة على حدة، ويجعلها تبدو أكثر
أهمية مما هي عليه في الواقع.
3. **افتراض
الفرضية بعد معرفة النتائج (HARKing):**
يقوم الباحث بصياغة فرضية بحثية بعد أن يرى نتائج غير
متوقعة في بياناته، ثم يقدمها في ورقته البحثية كما لو كانت هي الفرضية التي انطلق
منها منذ البداية، مما يعطي انطباعاً خاطئاً بقوة البصيرة النظرية للباحث.
- كانت عملية مراجعة الأقران، التي يُفترض أن تكون خط الدفاع الأول ضد العلم السيئ، متواطئة بشكل
- غير مباشر. فقد كانت المجلات العلمية المرموقة تفضل نشر النتائج الجديدة والمفاجئة، ونادراً ما
- كانت تهتم بنشر
دراسات التكرار، خاصة تلك التي تسفر عن نتائج سلبية.
#### **دراسات الحالة سقوط الأصنام**
تحولت الأزمة من نقاش أكاديمي داخلي إلى فضيحة
عامة مع سقوط عدد من النجوم البارزين:
* **آمي
كودي و "وضعية القوة":** في عام 2010، نشرت آمي كودي، الأستاذة بكلية
هارفارد للأعمال، دراسة زعمت أن اتخاذ "وضعيات القوة" (مثل الوقوف ووضع
اليدين على الخصر) لمدة دقيقتين يمكن أن يغير كيمياء الجسم، فيزيد من هرمون
التستوستيرون ويقلل من هرمون التوتر (الكورتيزول)، مما يعزز الثقة والأداء. أصبحت
محاضرتها على منصة "تيد" من الأكثر مشاهدة على الإطلاق، لكن دراسات
التكرار اللاحقة والأكبر حجماً فشلت في إثبات التأثيرات الهرمونية المزعومة، مما
قوض الادعاء الأساسي للدراسة.
* **براين
وانسينك وعلم السلوك الغذائي:** كان وانسينك مديراً لمختبر الغذاء والعلامة
التجارية المرموق في جامعة كورنيل. اشتهر بتجاربه الطريفة، مثل تجربة "وعاء
الحساء الذي لا يفرغ"، والتي أظهرت كيف يمكن للإشارات البيئية أن تدفعنا
للأكل دون وعي. انكشف أمره في عام 2016 عندما نشر تدوينة اعترف فيها بفخر أنه شجع
طالبة لديه على استخدام أساليب "التحايل على قيمة P" لانتزاع أربع أوراق بحثية من
مجموعة بيانات "فاشلة" لتجربة بيتزا. أدى هذا الاعتراف الصادم إلى تدقيق
واسع في أعماله، مما أسفر عن سحب أكثر من 15 ورقة بحثية واستقالته في نهاية المطاف.
* **فرانشيسكا
جينو ومفارقة الصدق:** كانت الفضيحة الأكثر دراماتيكية هي تلك التي طالت فرانشيسكا
جينو، وهي باحثة بارزة أخرى من هارفارد، والمفارقة أنها كانت خبيرة في دراسة السلوك
الأخلاقي والصدق. اتُهمت جينو في عام 2021 بتزوير البيانات في عدة دراسات، بما في ذلك
دراسة شهيرة زعمت أن جعل الناس يوقعون على تعهد بالصدق في أعلى النموذج (بدلاً من
أسفله) يزيد من أمانتهم. شعر الباحثون الذين بنوا أعمالهم على نتائجها، مثل الفريق
الذي حاول تطبيق نظريتها على الإقرارات الضريبية في غواتيمالا دون جدوى، بـ "الخيانة"،
فقد أهدروا وقتاً وموارد ثمينة بناءً على علم زائف.
#### **الثورة الهادئة نحو علم أكثر صرامة وشفافية**
في خضم هذه الفوضى، ظهر أبطال غير متوقعون. قام
ثلاثة أكاديميين، هم أوري سيمونسوهن، ولييف نيلسون، وجو سيمونز، بإطلاق مدونة
بعنوان
"Data Colada". بدأت المدونة كمبادرة لتحسين
الممارسات البحثية، لكنها سرعان ما تحولت إلى منصة للتحقيق العلمي، حيث استخدموا
التحليل الإحصائي لكشف التناقضات والأنماط غير المحتملة في البيانات المنشورة،
ولعبوا دوراً محورياً في فضح الاحتيال في قضية جينو.
أجبرت هذه الفضائح المجتمع العلمي على إجراء مراجعة ذاتية مؤلمة ولكنها ضرورية. ونتيجة لذلك، بدأت حركة إصلاحية قوية تكتسب زخماً، ترتكز على مبادئ الشفافية والصرامة:
1. **التسجيل
المسبق (Pre-registration):** يُلزم الباحثون الآن بشكل متزايد بتسجيل فرضياتهم وخطة تحليل
البيانات الخاصة بهم في سجل عام قبل بدء التجربة. هذا يمنع "التحايل على قيمة P" و "HARKing"، حيث لا يمكن للباحث تغيير قصته بعد
رؤية النتائج.
2. **العلم
المفتوح (Open Science):** هناك توجه متزايد نحو جعل البيانات والمواد وأكواد التحليل
متاحة للعامة. هذا يسمح للآخرين بالتحقق من النتائج وتكرارها بسهولة، مما يعزز
المساءلة.
3. **تقدير
دراسات التكرار:** بدأت المجلات العلمية تدرك أهمية دراسات التكرار، وخصصت مساحة
أكبر لنشرها، سواء كانت نتائجها إيجابية أم سلبية.
**فى الختام**
لم تكن الفضيحة التي هزت علم السلوكيات مجرد قصة عن الاحتيال الأكاديمي، بل كانت نقطة تحول حتمية في نضوج حقل علمي شاب وقع في فخ جاذبيته الخاصة. لقد كانت درساً قاسياً حول المخاطر الكامنة في تبسيط الظواهر الإنسانية المعقدة، وحول كيف يمكن لنظام الحوافز الأكاديمية أن يدفع حتى أفضل العقول نحو ممارسات مشبوهة.
اليوم، يخرج علم السلوكيات من هذه الأزمة أكثر قوة
وتواضعاً. إنه يتخلى عن القصص الجذابة والمبسطة لصالح نهج أكثر دقة وحذراً. قد
تكون النتائج أقل إثارة، لكنها ستكون مبنية على أساس أكثر صلابة من الحقيقة
العلمية، وهذا هو المكسب الحقيقي على المدى الطويل. لقد كانت "الثورة" ضرورية
لتطهير الحقل وتمهيد الطريق نحو مستقبل أكثر موثوقية وأمانة.