### **"سماعة أذن تكفي للذعر": سيمفونية القلق وهمسات الماضي المظلم**
في المشهد الأدبي العربي المعاصر، حيث تتسابق
الأقلام لتقديم تجارب سردية جديدة، تبرز رواية "سماعة أذن تكفي للذعر" للكاتبة
لبنى حماد كعملٍ فريدٍ لا يكتفي بسرد حكاية، بل يغزل نسيجًا معقدًا من الرعب
النفسي الذي يتسلل إلى أعماق القارئ عبر أكثر الحواس بدائية وتأثيرًا: حاسة السمع.
![]() |
### **"سماعة أذن تكفي للذعر": سيمفونية القلق وهمسات الماضي المظلم** |
- إنها رواية تثبت ببراعة أن الذعر الحقيقي لا يكمن في الوحوش التي نراها، بل في الأصوات التي
- تتردد في الفراغ، والهمسات التي تملأ الصمت، والماضي الذي يرفض أن يموت، مكتفيًا بالبقاء
- كصدى مشؤوم
في أذن الحاضر.
#### **مدخل إلى عالم "شهد" العادي في مواجهة الخارق**
تبدأ الرواية من فرضية بسيطة ومبتكرة في آنٍ واحد: "شهد"، بطلة الرواية التي تمثل الإنسان العادي، تعثر على أداة يومية مألوفة، سماعة أذن. لكن هذه السماعة ليست مجرد قطعة تكنولوجية، بل هي مفتاح ملعون يفتح بوابة على مصراعيها نحو عالم من الأصوات الخفية.
- من اللحظة التي تضعها "شهد" في أذنها، تنفصل عن الواقع المألوف وتدخل في عزلة صوتية قسرية
- عالم لا يشاركها فيه أحد، حيث تصبح الأصوات التي تسمعها حقيقتها الوحيدة، بينما يصم الآخرون
- آذانهم
عنها.
هنا تكمن العبقرية الأولى في بناء الشخصية والرعب. الكاتبة لا تقدم لنا بطلة خارقة أو متمرسة في عوالم الغموض، بل فتاة عادية، ربما تشبهنا، مما يجعل تجربتها أكثر تأثيرًا ورسوخًا في النفس. ذعر "شهد" يصبح ذعرنا، وشكوكها في سلامة عقلها تصبح تساؤلاتنا.
هل هذه الأصوات حقيقية أم مجرد هلاوس؟ هل هي نافذة على الماضي أم عَرَض لمرض نفسي؟ هذا الخط الرفيع بين الواقع والوهم هو الملعب الذي تدور فيه أحداث الرواية، وهو ما يمنحها عمقها النفسي ويجعلها أكثر من مجرد قصة أشباح تقليدية.
#### **القصر القديم جدران تنطق بالأسرار**
لا يمكن فصل تجربة "شهد" عن المكان الذي يحتضنها: القصر القديم. في أدب الرعب، غالبًا ما يكون المنزل أو القصر شخصية قائمة بذاتها، وهذا ما تجسده لبنى حماد ببراعة. القصر ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو الوعاء الذي يحفظ ذكريات أربعة أجيال من الأسرار والآلام والخطايا.
- جدرانه الصامتة هي الشاهد الأبدي على وقائع مظلمة طواها النسيان، والأصوات التي تسمعها "شهد"
- عبر السماعة ليست سوى تموجات لتلك الأحداث، وصرخات مكتومة استطاعت أخيرًا أن تجد
- مستمعًا.
يتحول القصر إلى متاهة من الذكريات، كل غرفة فيه تحمل همسًا، وكل ممر يتردد فيه صدى خطى من الماضي. تصبح رحلة "شهد" في أرجاء القصر رحلة استكشافية مزدوجة: هي تستكشف المكان فيزيائيًا، وفي الوقت ذاته، تستكشف طبقات الزمن صوتيًا.
هذا التزاوج بين المكان والزمان، بين المرئي والمسموع، يخلق جوًا قوطيًا خانقًا، حيث يشعر القارئ، تمامًا مثل "شهد"، بأن الجدران تطبق عليه وأن الماضي يزحف نحوه من كل زاوية.
#### **بنية سردية متشابكة لعنة تمتد لأربعة أجيال**
تتعمق الرواية في استكشاف فكرة "الصدمة الموروثة" (Inherited Trauma)، حيث لا تكون معاناة "شهد" وليدة اللحظة، بل هي الذروة المأساوية لسلسلة من الأحداث التي بدأت قبل عقود طويلة. من خلال الأصوات المتداخلة والمشاهد الصوتية المجتزأة، تبدأ "شهد"، ومعها القارئ، في تجميع أحجية مروعة تمتد عبر أربعة أجيال.
- تكتشف أن الذعر الذي تعيشه ليس ملكها وحدها، بل هو إرث ثقيل، لعنة تنتقل من جيل إلى جيل
- وأن الأصوات التي تسمعها هي أرواح الماضي تطالب بالعدالة أو الخلاص أو ربما الانتقام.
هذه البنية السردية غير الخطية تزيد من حالة الترقب والغموض. نحن لا نحصل على القصة مرتبة، بل نتلقاها كشظايا صوتية، تمامًا كما تتلقاها البطلة. هذا الأسلوب يجبر القارئ على المشاركة الفعالة في بناء القصة، وتحليل الأصوات، وربط الخيوط، مما يخلق تجربة قراءة تفاعلية ومشوّقة.
إنها رحلة أثرية في تاريخ عائلة، حيث كل صوت مكتشف هو بمثابة قطعة أثرية تكشف جزءًا من الحقيقة المدفونة، حقيقة بشعة ومؤلمة ترتبط بـ"شهد" ارتباطًا وثيقًا ومصيريًا.
#### **فن الرعب الصوتي الإيحاء أقوى من التصريح**
لعل أبرز ما يميز "سماعة أذن تكفي للذعر" هو اعتمادها الكلي على "الرعب الإيحائي" بدلاً من "الرعب الصريح". تدرك الكاتبة أن ما يتخيله العقل البشري في الظلام هو أكثر فزعًا من أي وحش يمكن وصفه بالكلمات.
- لذلك، هي لا تصف لنا أشباحًا أو كيانات مرعبة بشكل مباشر، بل تجعلنا نسمعها. نسمع صوت بكاء
- طفل في غرفة فارغة، همسًا باسم "شهد" من زاوية مظلمة، صوت جرّ شيء ثقيل في الطابق
- العلوي، أو مقطوعة موسيقية حزينة تتكرر بلا
نهاية.
هذه التقنية السردية تحوّل القارئ من مجرد متفرج إلى مستمع متوتر. يصبح الصمت في الرواية أكثر إثارة للقلق من الضجيج، لأننا ننتظر الصوت التالي الذي سيخترقه. الكاتبة تبني تصاعدًا نفسيًا دقيقًا، حيث يبدأ الأمر بأصوات بسيطة ومربكة، ثم يتطور ليصبح سيمفونية من القلق والذعر المنظم.
إنها تستغل قوة الصوت في إثارة الخوف البدائي من المجهول، وتثبت أن سماعة أذن بسيطة، في الظروف المناسبة، يمكن أن تكون أداة تعذيب نفسي لا تضاهى.
#### ** رواية عن الإصغاء إلى ما وراء الصمت**
في نهاية المطاف، "سماعة أذن تكفي للذعر"
هي أكثر من مجرد رواية رعب. إنها تأمل عميق في طبيعة الذاكرة، وقوة الماضي في
تشكيل الحاضر، وأهمية الإصغاء ليس فقط للأصوات المسموعة، بل للقصص الصامتة التي
تحملها العائلات والأماكن. لبنى حماد تقدم عملًا أدبيًا ناضجًا ومبتكرًا، يضعها في
مصاف الكتّاب الذين يتقنون اللعب على أوتار النفس البشرية.
فى الختام
تتركنا الرواية مع حقيقة مقلقة: أن كل واحد منا يحمل في داخله أصداء ماضيه، وأن الصمت الذي يحيط بنا قد لا يكون فارغًا كما نعتقد. إنها دعوة لإعادة النظر في علاقتنا مع الأصوات، ومع تاريخنا الشخصي والعائلي.
هي
رواية تؤكد أن الذعر ليس بحاجة إلى أنياب ومخالب، بل تكفيه همسة في أذن، وسماعة
واحدة تكفي لفتح أبواب الجحيم الشخصي وكشف حقيقة أن أفظع الأسرار هي تلك التي ترفض
أن تبقى صامتة.