**«شروط الوردة» لمجدي القشاوي: حين تُزهر الحكمة في بساتين السرد**
تُقدم لنا المجموعة القصصية «شروط الوردة»،
الصادرة عن دار «العين» المرموقة للنشر بالقاهرة، للكاتب المصري المتمكن مجدي
القشاوي، تجربة أدبية فريدة تمتح من معين التأمل الفلسفي والحس الإنساني المرهف. يتجاوز
القشاوي في هذه المجموعة حدود السرد التقليدي ليغوص بنا في عوالم شخصياته، محولاً
أثقال الحياة اليومية وتحدياتها إلى مُعادلات شعرية عميقة، تتكئ على لغة مكثفة
ورمزية ثرية، تبدأ شرارتها الأولى من العنوان نفسه.
![]() |
**«شروط الوردة» لمجدي القشاوي: حين تُزهر الحكمة في بساتين السرد** |
الوردة
فـ«الوردة»، هذا الرمز الكوني للجمال والرقة والحرية، تبدو في عالم القشاوي محكومة بـ«شروط». ليست شروطًا تُقيد عبيرها أو تحد من بهائها، بل هي شروط الحياة ذاتها، تلك القوانين الخفية والظاهرة التي تحكممساراتنا، وتفرض علينا إيقاعاتها.
- هذه المفارقة الدالة هي البوابة التي تنفتح عليها قصص المجموعة
- حيث نرى الحياة وهي تُجاهد من أجل الإنبات والازدهار
- رغم كل
الثغرات والعوائق التي تُربك سعيها نحو الاكتمال المنشود.
العالم المحيط
يُبحر بنا القشاوي عبر استراتيجيات متنوعة يتبناها أبطاله في تعاملهم مع العالم المحيط.
فما بين «الخضوع» كآلية للبقاء، وبين التروي الحكيم في اختبار دروب الحياة وتقلباتها، يُعدد الكاتب أدوات الاتصال التي يمتلكها هؤلاء الأبطال. وفي هذا السياق، يمنح «الطبيعة الأم» – التي تُعد الوردة أحد أبهى تجلياتها – سطوتها المستحقة، تلك السطوة التي غالبًا ما تُغيَّب في زحام عالمنا المعاصر المكتظ بالفوضى البشرية والضجيج المصطنع.
- يتجلى هذا الحضور الطاغي للطبيعة منذ المشاهد البصرية الافتتاحية في العديد من القصص، كما في
- قصة «وتر مصاب» حيث ترسم "سحابة وحيدة، تقف بعيداً ولا تُواجه" لوحة من العزلة والتأمل. ولا
- يقتصر الأمر على الوصف، بل يمتد ليمنح الطبيعة مرونة لغوية تتجاوز في كثافتها وشفافيتها لغة
- البشر المعهودة.
الشمس
«الشمس» في فضاء المجموعة القصصية ليست مجرد قرص سماوي يضبط إيقاع الزمن؛ إنها «ألف شمس»، تتولد مع شروقها الحكايات، وتلوح كغاية وجودية وخلاصة لتجارب إنسانية عميقة. هي ليست ابنة مشهد زمني متكرر بقدر ما هي عنصر سردي فاعل، يفرض هيمنته على مجريات الأحداث، حتى وسط جنون الطرق وضجيج المدن
- «السيارات المُسرعة تدوس بعجلتيها الأماميتين على أشعّة الشمس السائلة». كما أنها تمتلك القدرة على
- إعادة تشكيل الزمن واستدعاء الذاكرة: «رأيت الشمس على بشرته تُجاهد لإعادة اللون الذي بهت».
- هكذا تتعدد تجليات الشمس، لتصبح علامة فارقة ومتحولة، تجمع بين خيوط الزمن والذاكرة
- والبصيرة النافذة.
الضعف
لا يقدم القشاوي الضعف كسمة سلبية محضة، بل يمنحه طاقة مُغايرة، ويضعه في سياقات تأملية تُراهن على قوة المُخيلة الكامنة وحُب الحياة المتجذر. فبطل إحدى القصص، الغارق في مسؤولياته العائلية الثقيلة، يعبر الطريق إلى المستشفى بخفة تكاد تكون سحرية، يشعر للحظات عابرة أنه «راقص» يرسم بعينيه أوتارًا وهمية على الأسفلت، ويلتف وكأنه في دائرة كونية متسعة.
- هذا المشهد، الذي يكتنفه مفارقة حادة، يفتتح فصلاً طويلاً من البؤس الذي ينتظره داخل أروقة
- المستشفى، لكنه يضيء في الوقت ذاته على ملمح جوهري في شخصيات المجموعة: قدرتهم على
- استقبال الأقدار بطواعية ورضا، وكأنهم اختاروا أن يروا الحياة من نوافذها الصغيرة، تلك النوافذ
- التي قد تبدو ضيقة، لكنها تطل على آفاق رحبة من المعنى.
الحياة الممكنة
«الحياة الممكنة» هي أحد الخيارات الأساسية التي يلجأ إليها أبطال القشاوي، متسلحين بطاقات هائلة من الخيال الخصب. ففي قصة «إنبات كثيف»، يواجه البطل مرارة الانتظار الطويل بأن يرسم شجرة ويجلس في ظلها المتخيل. وفي «الشجر المُغنّي»، يقرر البطل بعد بلوغه سن المعاش أن ينقل إرثه الروحي من منطقة سانت كاترين بسيناء
- حيث قضى سنوات خدمته محاطًا بأشجار «السرح» المهيبة، إلى قريته الصغيرة. فيقوم بمهمة شبه
- مستحيلة، بنقل أشجار ضخمة في موكب احتفالي، ليظل لسنوات حتى رحيله يستمع إلى غنائها
- الساحر، ويشاركه أهل القرية لذة النوم على وقع وشيشها الأثير. هنا، تبدو الطبيعة امتدادًا للذات
- المنتزعة من أماكنها الأليفة، وللزمن الممسوس بالوحدة والحنين.
الزمن
الزمن الذي يُقاربه رُواة القصص يبدو كأنه مبعوث من آخره، زمن الحكمة المتأخرة، المتروكة على حواف الحكايات، أشبه بأصداء وصايا قديمة تُستعاد في لحظات الانكسار والتيه. ففي قصة «ينسحبون من العيون»، يستسلم البطل لمنطق الأحلام وتأويلاتها، مؤمنًا بحكايات الجدات الموروثة.
- يتعثر في طريقه نحو البحر بصديق مُتخيّل يلقّنه وصايا للنجاة من كثافة الوجود وآلامه: «سِر نحو
- مساحات لا تميّز فيها صوتاً من صوت... حاذر من الاندماج... لا تُربّ كلباً جميلاً ولا قطة رقيقة.
- الطائر جميل جداً في سمائه، وأنت جميل جداً في أرضك». النجاة، وفق هذا المنطق، تكمن في
- التخلي، في التحرر من التعلّق المفرط بالبشر والحجر، فعندها فقط «سيقل عدد من ينسحبون من
- عينيك».
يستثمر الكاتب ببراعة طاقات الفنون البصرية والموسيقية لخلق مقاربات جمالية مع العالم النفسي لأبطاله. ففي قصة «غُصن ووردة»، يصف البطل فتاة بأن «وجهها مضيء بضوء رمبرانتي»، في إحالة ذكية إلى تقنية التلوين لدى الفنان الهولندي الشهير رمبرانت، الذي يوظف النور المنبعث من قلب لوحاته لخلق تأثيرات درامية آسرة.
- وفي القصة ذاتها، تتداخل الفنون حين تباغت البطل موسيقى لسيد درويش من أغنية «أنا عشقت»
- فيرى الموسيقى ويميز لها ألوانًا، لتنفك الحواس عن حدودها التقليدية، وتدخل الكلمة واللحن واللون
- في شبكة إدراكية واحدة، تمنح التجربة
الإنسانية نبضًا شعريًا متوهجًا.
- هذه الكثافة الحسيّة تتسلل برشاقة إلى اللغة ذاتها، فتكتسب شحنة عاطفية ملموسة. يصف بطل إحدى
- القصص رواية يقرأها بأنها «مثل رائحة ثمرة في غابة». وفي سياق آخر، تصبح الكلمات كائنات
- حائرة، تحتاج إلى صبر طويل حتى تُفرز حمولتها الشعورية، وكأنها صيد ثمين: «يصطاد الحكايات
- واحدة واحدة،
مفضلاً الطازجة منها، الزمن سمكة طازجة، رائحته ولونه يكفيانها».
الختام
هكذا، لا يُقدّم مجدي القشاوي في «شروط الوردة» الحكاية كحكاية مجردة، بل كعالمٍ حسيّ نابض بالحياة، يتداخل فيه الزمن بالطعم والرائحة، وتتجاور فيه اللغة مع الضوء، والموسيقى مع ظلال الأشجار.
إنها دعوة مفتوحة للتأمل
في شروط وجودنا، وفي قدرتنا على إيجاد الجمال والمعنى حتى في أكثر الظروف قسوة،
مقدمًا بذلك إضافة نوعية للمشهد القصصي العربي المعاصر.