**ظاهرة ادعاء الثقافة: بين المظاهر السطحية والعمق المعرفي الحقيقي**
في عصر تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتداخل فيه
المؤثرات الرقمية، برزت ظاهرة لافتة تتمثل في سعي البعض نحو اكتساب "مظهر"
المثقف بأسرع الطرق وأقلها جهدًا. يتجاوز هذا السعي الرغبة الطبيعية في المعرفة
والاطلاع، ليتحول إلى مجموعة من السلوكيات والممارسات التي تهدف بشكل أساسي إلى
ترك انطباع معين لدى الآخرين، بدلاً من تحقيق فهم حقيقي وعميق للعالم. إن فكرة "كيف
تصبح مثقفًا في خمس دقائق" التي قد تُطرح بسخرية، تخفي وراءها واقعًا يستحق
التأمل والتحليل.
![]() |
**ظاهرة ادعاء الثقافة: بين المظاهر السطحية والعمق المعرفي الحقيقي** |
اللغة
تُعد اللغة الأداة الأولى التي يلجأ إليها مدّعو الثقافة السريعة.
فهم يتعمدون إلى انتقاء مفردات تبدو للوهلة الأولى عميقة أو متخصصة، ظنًا منهم أن استخدام مصطلحات غير شائعة يضفي عليهم هالة من المعرفة. فبدلًا من الألفاظ اليومية المعتادة، قد تجدهم يستخدمون تعابير مثل "مولانا" للإشارة إلى صديق، أو يصرون على استخدام مصطلح "المعرفة والعارفين" بدلًا من "العلم والعلماء"، بحجة أن الأخير أصبح "مبتذلًا".
- هذا الانتقاء المتعمد لا يقتصر على المفردات، بل يمتد إلى إعادة صياغة الجمل الشائعة بطريقة تبدو
- أكثر "فخامة" أو "أصالة"، كأن يستبدل دعاء بسيط مثل "الله يرضى عليك" بـ "رضي الله عنك"
- معتقدًا أن هذا التغيير الطفيف في الترتيب يعكس عمقًا لغويًا أو
ثقافيًا.
السلوك المختلف
يتجلى هذا السلوك أيضًا في تبني المصطلحات الأجنبية أو الأكاديمية في سياقات قد لا تتطلبها بالضرورة.
فالمناقشات حول الطبقات الاجتماعية تتحول إلى حديث عن "البرجوازية"، والشخص العملي يوصف بأنه "براجماتي"، والبعد الغيبي يُسمى "ميتافيزيقيًا". كما يحرص هؤلاء على استخدام كلمات مثل "نوفيلّا" بدل الرواية القصيرة، و"المونولوج" بدل حديث النفس، و"الثيوقراطية" عند انتقاد الحكم الديني، و"الإبستمولوجيا" عند الحديث عن نظرية المعرفة.
- بل إن هناك ولعًا خاصًا بالمصطلحات المنتهية بلاحقة "-جيا" (مثل فسيولوجيا، أنثروبولوجيا
- ميثولوجيا)، واستخدام كلمة "كليشيه" يصبح ضرورة لا غنى عنها. وفي حال الحيرة بين مفردة
- عربية وأخرى إنجليزية، يُفضَّل أحيانًا استخدام الإنجليزية ثم التظاهر بالبحث عن مقابلها العربي
- كنوع من استعراض
المعرفة اللغوية المزدوجة.
المفردات
لا يقتصر الأمر على المفردات، بل يتعداه إلى محاولة خلق هالة من الغموض والعمق المفتعل.
في هذا السياق، قد يُنصح مُدّعي الثقافة بانتقاد الأعمال الفنية أو الأدبية التي تحظى بقبول جماهيري واسع، وإبداء الاختلاف مع الكتب الرائجة، وذلك بهدف إظهار "ذوق رفيع" ونقد "حاد" يتجاوز فهم العامة. كما يشمل ذلك الاستشهاد بأسماء فلاسفة أقل شهرة بين عامة الناس، مثل سبينوزا، كيركيغارد، أو هايدغر
- بدلًا من الأسماء المألوفة كسقراط وأفلاطون، لتعزيز صورة المثقف المطلع على ما هو "نخبوي"
- وغير متداول. حتى نشر صور لكتب ذات عناوين معقدة على وسائل التواصل الاجتماعي، دون
- الحاجة إلى
قراءتها، يُعد جزءًا من هذه الاستراتيجية.
تفاصيل الحياة اليومية
تمتد هذه الاستعراضية لتشمل تفاصيل الحياة اليومية.
فاحتساء القهوة السوداء ذات الاسم المعقد في المقاهي، بدلًا من المشروبات "الشعبية"، يصبح علامة على "الذوق الرفيع" و"تحمل المرارة" التي يُفترض أن يتحلى بها المثقف. وكذلك اختيار تشجيع فرق رياضية ذات تاريخ "عريق" حتى لو كانت قليلة الإنجازات حديثًا
- قد يُفسَّر على أنه اختيار يعكس عمقًا وأصالة، واستعدادًا "لتحمل مرارة الهزيمة" من أجل مبدأ.
- الإعجاب المعلن بصوت فنانة كفيروز، حتى لو لم يكن الذوق الشخصي يميل إليه، أو التغني بالمطر
- أو استخدام الشهور السريانية بدلًا من الهجرية، كلها تفاصيل صغيرة تساهم في رسم صورة "المثقف
- المختلف". بل إن إخراج علبة السجائر بأسلوب معين، والتحدث ببطء مع عقد الأصابع ووضع رجل
- على أخرى، قد يُنظر إليه كجزء
من هذه الصورة النمطية.
إن هذه الممارسات، وإن بدت ساخرة في وصفها، تشير
إلى فهم سطحي لمعنى الثقافة الحقيقي. فالثقافة ليست مجرد مجموعة من المظاهر
الخارجية أو المصطلحات المنمقة، بل هي نتاج عملية طويلة من القراءة النقدية،
والتفكير العميق، والتفاعل الجاد مع الأفكار والتجارب الإنسانية المتنوعة. المثقف
الحقيقي هو من يسعى للمعرفة لذاتها، ويستخدمها لفهم العالم من حوله والمساهمة في
تطويره، وليس لاستعراضها أو اكتساب مكانة اجتماعية زائفة.
ختامًا
إن محاولة "تصنيع" مثقف في دقائق معدودة هي وصفة للسطحية والادعاء. فالثقافة الحقيقية تنبع من شغف صادق بالمعرفة، ومن قراءة متعمقة، وتفكير نقدي، وتفاعل إنساني أصيل. إنها رحلة استكشاف مستمرة تتطلب صبرًا وجهدًا، وتُثمر فهمًا أعمق للحياة وتعقيداتها، وهو ما لا يمكن اختزاله في مجموعة من الحيل اللغوية أو السلوكيات المصطنعة.
التمييز بين المظهر
الجذاب للثقافة وجوهرها العميق يظل تحديًا قائمًا، ويتطلب وعيًا نقديًا يمكّننا من
تقدير المعرفة الأصيلة وتجاوز بريق الادعاءات السطحية.