**"القفزة": تأملات في الهشاشة الإنسانية على حافة الهاوية**
في زخم الحياةالمعاصرة، حيث تتسارع الأحداث وتتداخل المصائر، يأتي الأدب ليقدم لنا نافذة نتأمل
من خلالها ذواتنا وعلاقاتنا بالآخرين.
**"القفزة": تأملات في الهشاشة الإنسانية على حافة الهاوية** |
وفي هذا السياق، تبرز رواية "القفزة"
للكاتبة السويسرية الموهوبة سيمونه لابرت، التي صدرت بترجمة مُتقنة للمترجم القدير
سمير جريس عن دار "الكرمة" بالقاهرة، كعمل أدبي يغوص في أعماق النفس
البشرية، ويتناول موضوعات مُلِحّة كاليأس، والهوية، والبحث عن المعنى في عالم يبدو
في كثير من الأحيان عبثيًا.
تتخذ الرواية
من حادثةجلية نقطة انطلاق لها، وهي وقوف فتاة تدعى "مانو" على سطح أحد المباني،
في مشهد يثير الرعب والفضول في آن واحد. هذا المشهد، الذي يمثل ذروة التوتر في
الرواية، يتحول إلى عدسة مكبّرة تسلط الضوء على تفاصيل دقيقة في حياة الشخصيات
التي تتقاطع معها "مانو"، وعلى التوازنات الهشة التي تقوم عليها
علاقاتنا الإنسانية.
- تتميز "القفزة" بتركيزها على الجانب النفسي للشخصيات
- حيث تتجلى بوضوح معاناتها وصراعاتها الداخلية.
- فـ"مانو"، التي تقف على حافة الهاوية
- ليست مجرد شخصية يائسة، بل هي تجسيد لحالة إنسانية عامة
- تعكس الضغط الذي يمارسه المجتمع على الفرد
- والإحساس بالعزلة والاغتراب الذي قد يراود الكثيرين منا.
- ومن خلال استعراض مبررات "مانو" ودوافعها
- تنجح لابرت في أن تجعلنا نتعاطف معها
- بل وأن نتفهم – ولو جزئيًا – قرارها
الصعب.
لا تقتصر الرواية على قصة "مانو" وحدها
بل تتجاوز ذلك إلى استكشاف تأثير أفعالها على
المحيطين بها. فكل شخصية في الرواية تحمل معها حكايتها الخاصة، وتعكس وجهة نظر
مختلفة تجاه الحدث. هناك الصحفيون الذين يبحثون عن قصة مثيرة للاهتمام، ورجال
الإطفاء الذين يحاولون إنقاذها، والمارة الذين يتفرجون على المشهد بهواتفهم
المحمولة، والشرطة التي تسعى إلى فهم ملابسات الحادث. كل هذه الشخصيات، على اختلاف
خلفياتها ودوافعها، تصبح جزءًا من اللوحة الأكبر التي ترسمها لابرت، والتي تصور
لنا تعقيدات الحياة المعاصرة، وكيف يمكن أن يؤثر قرار فردي في مصائر الكثيرين.
- يُلاحظ في "القفزة" براعة لابرت في بناء الحبكة وتصاعد وتيرة الأحداث
- حيث تبدأ الرواية بتوتر عالٍ، ثم تتوالى الأحداث بوتيرة سريعة
- مما يجعل القارئ مشدودًا إلى نهاية الرواية.
- كما أن استخدام تقنية تعدد وجهات النظر يعزز من تشويق العمل
- حيث يتيح للقارئ أن يرى الأحداث من زوايا مختلفة
- وأن يشارك في عملية تفسيرها.
- هذه التقنية تتيح للكاتبة أيضًا أن تتناول موضوعات متعددة في الرواية
- دون أن تبدو الأحداث مشتتة أو غير مترابطة.
من الناحية الأسلوبية
تمتاز لابرت بلغة أدبية قوية، وتفاصيل دقيقة، وتوظيف مُتقن للصور البلاغية. فهي لا
تكتفي بوصف الأحداث بشكل سطحي، بل تتعمق في المشاعر والأحاسيس، وتجعل القارئ يعيش
التجربة بكل حواسه. كما أن استخدامها للغة الشعرية في بعض المقاطع يضفي على الرواية
طابعًا جماليًا خاصًا، ويجعلها أكثر تأثيرًا في القارئ.
- تعتبر "القفزة" إضافة مهمة إلى الأدب السويسري المعاصر
- الذي بدأ يشق طريقه نحو العالمية
- وذلك بفضل الكتاب الموهوبين الذين يعكسون هموم مجتمعاتهم بلغة عالمية.
- كما أن اختيار سمير جريس لترجمة هذا العمل يمثل إضافة قيمة أيضًا
- حيث يشتهر جريس بدقته في نقل المعنى
- وحفاظه على جماليات النص الأصلي.
- فجريس ليس مجرد مترجم
- بل هو ناقل للثقافات
- يسعى إلى تقديم الأدب العالمي للقارئ العربي بأفضل صورة ممكنة.
بالإضافة إلى ذلك
فإن
العنوان "القفزة" يحمل دلالات رمزية متعددة، تتجاوز المعنى الحرفي
للكلمة. فالقفزة هنا ليست مجرد فعل فيزيائي، بل هي رمز للانتقال من حال إلى حال،
وللتغيير الذي قد يحدث في حياة الفرد والمجتمع. كما أن القفزة قد تكون تعبيرًا عن
الرغبة في التحرر من القيود، ومن الضغوط التي تمارس على الفرد، ومن اليأس الذي قد
يستبد به. فـ"مانو" ليست الوحيدة التي تقفز، بل إن كل شخصية في الرواية
تقفز بطريقتها الخاصة، سواء كانت هذه القفزة نحو الأمل أو اليأس.
- يمكن القول بأن "القفزة" ليست مجرد رواية عابرة
- بل هي عمل أدبي يدعو إلى التأمل في ذواتنا
- وفي علاقاتنا بالآخرين، وفي التوازنات الهشة التي تقوم عليها حياتنا.
- إنها رواية تجعلنا نتساءل عن معنى الحياة
- وعن دورنا في هذا العالم، وعن الهشاشة التي قد تدفعنا إلى حافة الهاوية.
- كما أنها تذكرنا بأن الأدب يمكن أن يكون أداة قوية لتغيير الوعي
- ولتحفيزنا على التفكير النقدي في القضايا التي تهمنا.
في الختام
فإن "القفزة"
عمل أدبي يستحق القراءة والتمعن، لما يطرحه من أفكار عميقة، ولما يتميز به من
أسلوب أدبي رفيع، وترجمة مُتقنة. إنها رواية تبقى في الذاكرة، وتدفعنا إلى إعادة
التفكير في عالمنا، وفي أنفسنا. ففي عالم اليوم، الذي يشهد الكثير من التغيرات والتحديات،
نحتاج إلى الأدب أكثر من أي وقت مضى، لكي يساعدنا على فهم أنفسنا، وعلى فهم العالم
من حولنا. إن "القفزة" هي دعوة للتأمل، وللحوار، وللبحث عن المعنى في
عالم يبدو في كثير من الأحيان بلا معنى. إنها قفزة في عالم الأدب، تترك أثرًا
عميقًا في نفوس قرائها.