## عبد القاهر الجرجاني: إمام البلاغة وعلم النظم
يُعدّ أبو بكر
عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني من
أبرز أعلام اللغة العربية، و يُعرف بـ "إمام
النحاة" و "شيخ البلاغيين". لقد ترك بصمةً واضحةً على علوم العربية
من خلال مؤلفاته التي أثرت في مسار الدراسات النحوية والبلاغية لعدة قرون.
 |
## عبد القاهر الجرجاني: إمام البلاغة وعلم النظم
**النشأة والحياة:**
وُلد عبد القاهر الجرجاني في مدينة جرجان في شمال إيران
عام 428 هـ الموافق 1037 م، وكان من أصل
فارسي. تمتّع بحبّ عميق للغة العربية وتعلّم النحو على يد الشيخ أبي الحسين محمد بن
حسن، واختار مذهب الإمام الشافعي في الفقه، و اعتنق
مذهب الأشاعرة في العقيدة.
ولم يكن عبد القاهر
مجرد عالم لغوي فحسب، بل كان
معروفًا بتقواه وزهدة
و عبادة. رويت
قصص عن شدة
تعلق قلبه بالله
تعالى، من ضمنها
حكاية دخول لص
عليه أثناء صلاة
الجرجاني، فلم يقطع
صلاة حتى أخذ
اللص ما وجده
في البيت.
**الكتابة والنتاج العلمي:**
ألف عبد
القاهر الجرجاني عدة
كتب في العلوم
العربية، ولكن أشهر
كتبه كانت في
مجال البلاغة والنحو.
ومن أهم مؤلفاته:
* **شرح الإيضاح:** ألف
الجرجاني شرحين لكتاب "الإيضاح" لأبي
علي الفرسي، الأول
سمّاه "المغني" وهو
شرح واسع للغاية،
والثاني سمّاه "المقتصد" وهو
مختصر للشرح الأول.
كما اختصر الجرجاني
كتاب "الإيضاح" نفسه
وأطلق عليه اسم "الإيجاز".
* **إعجاز القرآن:** كتاب
ضخم توسّع فيه
الجرجاني في دراسة
إعجاز القرآن الكريم،
وقد طُبع في مصر.
* **العوامل المائة:** كتاب
في النحو طُبع
في مطبعة بولاق.
* **العمد:** كتاب
في التصريف، يُعرف
أيضًا بـ "العمدة".
لكن أشهر كتابيه
و أكثرها تأثيرًا
على المسار العلمي
بعده هو كتابا "دلائل
الإعجاز" و "أسرار البلاغة".
**الاهتمام بإعجاز القرآن:**
كان أهم شغل
شغل بال الجرجاني
خلال حياته هو
إثبات إعجاز القرآن
الكريم، وقد كرّس
حياته لهذا الغرض.
إنّ الاطلاع على
كتبه يكشف عن
أنّ إسهاماته في
هذا المجال ظهرت
في اثنين من
الأمور:
* **دحض الآراء
السابقة حول إعجاز
القرآن:** تعرض الجرجاني
للفكر الذي أقرّ
بأنّ إعجاز القرآن
هو في أمر
خارج عن ذاته،
وليس في القرآن
نفسه. وقد فند
هذه الآراء وعمل
على بيان أنّ
الإعجاز كائن في
القرآن نفسه بسبب
فصاحته وبلاغته البالغة.
* **بيان إعجاز
القرآن بفصاحته وبلاغته:**
ركّز الجرجاني على
إبراز فصاحة القرآن
كأحد أسباب إعجازه،
وركز على أنّ
القرآن استطاع التغلغل
في النفس بفضل
بلاغته التي وصلت
إلى الكمال. و
وضع في هذا
المجال رسالة سمّها "الرسالة الشافية
في الإعجاز" للردّ
على مذهب المعتزلة
الذي ادّعى أنّ
إعجاز القرآن كان بـ
"الصِرْفة" وهو أنّ
الله صرف ألسنة
العرب عن قول
يشبه القرآن.
**نظرية النظم:**
وُضعت أسس نظرية "النظم" من
قبل الخطابي و
الباقلاني و القاضي
علي الجرجاني في
بحثهم عن إعجاز
القرآن وبلاغة الكلام،
لكنّ عبد القاهر
الجرجاني استلهم من
من سبقه ليخرج
بنظرية "النظم" كاملةً
في كتابه "أسرار
البلاغة".
تستند نظرية "النظم" إلى أربعة أسس أساسية:
1. **تساوي الألفاظ:**
لا تتميّز الكلمات
في ما بينها
قبل أن تُدخَل
في النظم، فالألفاظ
واحدة وليس لللفظة
ميزة على أخرى،
بل تكتسب الألفاظ
بلاغتها حين تدخل في السياق
وتؤدي المعنى الذي
يضاف إلى غيره.
2. **ترتيب الألفاظ
المعاني:** يُرتّب الجرجاني
الألفاظ في النطق
على حسب ترتيب
المعاني في الذهن،
فما كان سابقًا
في اللفظ يكون
سابقًا في الذهن.
3. **اجتماع الكلمات:**
لا يُحصل النظم
إلا باجتماع الكلمات،
فلا يوجد نظم
قبل اجتماع الكلمات.
4. **ميزة المعنى:**
يكون الفضل للنظم
في المعنى لا
في اللفظ.
و يُعتَبَر النظم
عند الجرجاني من
أهم وسائل توصيل
المعنى، فمن خلاله
تُصوّر المعاني وتُعرّف
على أفضل وجه.
**دور العلم في النظم:**
استفاد
الجرجاني من ثلاثة
علوم للإسهام في
نظرية "النظم":
1. **علم النحو:**
يسعى علم النحو
إلى نظم الكلام
و تحديد بنياته.
2. **علم المعاني:**
يُشكّل علم المعاني
المعاني المختلفة من
خلال دراسة اللفظ
و معناه.
3. **علم البيان:**
هو أداة صبّ
المعاني المتشكّلة في
صور بلاغية كالتشبيهات
و التصويرات و
المجازات.
و يُلخّص الجرجاني
نظرية النظم في
قوله: "تتبع معاني النحو
فيما بين الكلم
على حسب الأغراض
التي يُصاغ لها
الكلام".
**وفاة عبد القاهر الجرجاني:**
توفي عبد القاهر
الجرجاني في مدينة
جرجان عام 471 هـ
الموافق 1078 م،
تاركًا وراءه إرثًا
علميًا غنيًا أثر
في المجال العربي
على مدى القرون،
و ما زالت
أفكاره تُدرّس و
تُناقش في معاهد
العلوم العربية و
جامعات العالم.
**خاتمة:**
يُعدّ عبد القاهر
الجرجاني أحد أبرز
العلماء العرب الذين
أثروا في تاريخ
اللغة العربية و
الفكر الإسلامي. لقد
قدم إسهامات قيمة
في النحو و
البلاغة، و أضاف
إلى العلم بأفكاره
العلمية الجديدة التي
لا يزال تأثيرها
يشعر به الطلاب
و الباحثون حتى
اليوم.
و لم يُركز
الجرجاني فقط على
دراسة اللغة العربية
من الجانب اللغوي
فحسب، بل بحث
عن المعاني العميقة
التي تُخفيها اللغة
و سعى إلى
إبراز إعجاز القرآن
الكريم من خلال
تحليل بلاغته وفصاحته
و ترتيب كلماته.
و لا يزال
الجرجاني يُدرّس في
جامعات العالم كأحد
العلماء المؤثرين في
تاريخ اللغة العربية،
و إنّ أفكاره
التي وضعت قبل
قرون لا زالت
تُلهم الطلاب و
الباحثون اليوم.