رواية «البيرق.. هبوب الريح»: قراءة في الذاكرة العمانية المفقودة
ثلاثية البيرق: مشروع أدبي لتوثيق التحولات الكبرى
لا يمكن قراءة رواية «هبوب الريح» بمعزل عن سياقها العام، فهي تمثل الحلقة الختامية لثلاثية «البيرق» التي استهلتها التوبي لتوثيق مراحل مفصلية في التاريخ العماني الحديث. هذه الثلاثية ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي إعادة بناء للمشهد العماني في مواجهة القوى الخارجية والتحولات الآيديولوجية.
- الجزء الأول (حارة الوادي): ركز على مقاومة سكان الحارات العمانية للوجود البريطاني في الخمسينات، مسلطاً الضوء على الصراع بين الأصالة والاستعمار.
- الجزء الثاني (سراة الجبل): تناول «حرب الجبل» (1956-1959)، وهي فترة شهدت تضحيات جسيمة من قبل البسطاء في سبيل الدفاع عن استقلالهم وقيمهم.
- الجزء الثالث (هبوب الريح): وهو موضوع حديثنا، حيث يستكمل المسار الزمني لرصد ولادة الحركات الثورية والقومية والماركسية التي اجتاحت المنطقة في الستينات والسبعينات.
![]() |
| رواية «البيرق.. هبوب الريح»: قراءة في الذاكرة العمانية المفقودة |
الموروث
الشفاهي المصدر الأول للإلهام
تعتمد شريفة التوبي في «هبوب الريح» على تقنية "النبش في المسكوت عنه". فالتاريخ الرسمي غالباً ما يغفل تفاصيل الحياة اليومية للبسطاء، وهنا يأتي دور الروائية التي استلهمت حكاياتها من جدها ومن الذاكرة الجمعية لأهل عمان.
لقد نجحت الكاتبة في تحويل "الحكاية الشفهية" إلى نص أدبي متقن يقع في نحو 600 صفحة، حيث لم تكتفِ بنقل الأحداث، بل أعادت بث الروح في الشخصيات، جاعلةً من التاريخ مادةً حية يشعر القارئ بمرارتها وانتصاراتها وانكساراتها.
الحبكة
الدرامية والأبعاد السياسية
تدور أحداث «هبوب الريح» في مرحلة زمنية كانت تغلي بالأفكار الثورية. تتبع الرواية مصائر مجموعة من الشباب العماني الذين وجدوا أنفسهم بين فكي كماشة: واقع اجتماعي محافظ وصارم، وأحلام عريضة بالتغيير تقودها آيديولوجيات مستوردة (كالشيوعية والماركسية).
أبرز القضايا السياسية في الرواية:
- اختلال موازين القوى: كيف انتهت حركات المقاومة الوطنية إلى الهزيمة نتيجة عدم التكافؤ العسكري والتنظيمي مع القوى المدعومة خارجياً.
- الصراع الآيديولوجي: رصدت الرواية كيف أن الفكر الثوري، رغم بريقه، كان في بعض الأحيان غريباً عن خصوصية الواقع الثقافي والاجتماعي العماني، مما أدى إلى نوع من الاغتراب الفكري لدى الشباب.
- الحلم بالتغيير: تصوّر الرواية الاندفاع العاطفي والوطني للشباب نحو "الفكر الجديد" بحثاً عن العدالة والحرية.
المرأة
في أدب شريفة التوبي من الهامش إلى المتن
رغم أن الرواية ذات طابع تاريخي وسياسي بامتياز، إلا أن التوبي لم تغفل الجانب الإنساني والاجتماعي، وخاصة دور المرأة. في «هبوب الريح»، تبرز شخصيات نسائية قوية ومؤثرة:
- «طفول»: تمثل الشخصية الثائرة التي لا تكتفي بمقاومة المستعمر أو الظلم السياسي، بل تقاوم أيضاً العادات والتقاليد البالية التي تهمش دور المرأة.
- زوجة المناضل وأمه: قدمت الرواية وصفاً دقيقاً للمشاعر الداخلية للمرأة التي تنتظر عودة السجين أو المهاجر، وكيف تتحمل عبء الحفاظ على تماسك العائلة في غياب الرجل.
لقد استطاعت الكاتبة أن تجعل من معاناة المرأة مرآةً لمعاناة الوطن، فالحرية في نظرها لا تتجزأ، وهي تبدأ من تحرر الإنسان (ذكراً أو أنثى) من قيود الجهل والتهميش.
شخصيات
الرواية نماذج من اللحم والدم
أوجدت التوبي في هذا الجزء شخصيات ثرية بتناقضاتها وأحلامها، مثل أحمد سهيل، عبد السلام، وأبو سعاد. هؤلاء الأبطال ليسوا مجرد رموز سياسية، بل هم بشر يبحثون عن لقمة العيش، التعليم، والانتماء. تفاجأ هؤلاء الشباب بأن "الحياة خارج الحدود لا تشبه ما بداخلها"، مما خلق لديهم صدمة حضارية وفكرية أثرت على مساراتهم الحياتية.
البعد
الجمالي والفني في الرواية
تتميز رواية «البيرق.. هبوب الريح» بلغة سردية رصينة تنساب بسلاسة رغم ضخامة العمل. وقد زاد من جمالية العمل الغلاف الذي صممته الفنانة العمانية بدور الريامي، والذي يعكس روح الهوية العمانية والارتباط بالأرض والريح.
استخدمت الكاتبة تقنيات سردية متعددة، منها الاسترجاع (Flashback) لربط الأحداث بالجزأين السابقين، مما جعل الرواية وحدة موضوعية متكاملة تجيب على أسئلة القارئ حول مصائر الشخصيات التي التقاها في «حارة الوادي» و«سراة الجبل».
لماذا
تستحق «هبوب الريح» الوصول إلى بوكر 2026؟
وصول الرواية إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لم يكن محض صدفة، بل هو نتاج لعدة عوامل:
- الاشتغال على الذاكرة: ندرة الأعمال الروائية التي توثق هذه الفترة الحرجة من تاريخ عمان بهذا التفصيل والعمق.
- التوازن بين التاريخ والفن: لم تسقط الكاتبة في فخ التقريرية التاريخية، بل حافظت على الخيال الفني كعنصر محرك للأحداث.
- العالمية من خلال المحلية: من خلال غوصها في تفاصيل "الحارة" و"الجبل" العماني، استطاعت التوبي أن تلمس قضايا إنسانية عامة مثل الحرية، الغربة، والبحث عن العدالة.
الخلاصة ملحمة عُمانية بامتياز
رواية «البيرق.. هبوب الريح» لشريفة التوبي هي أكثر من مجرد كتاب؛ إنها صرخة في وجه النسيان، ومحاولة لإعادة الاعتبار للإنسان العماني البسيط الذي صنع التاريخ بصمته وتضحياته. إنها دعوة للقارئ العربي لاكتشاف خبايا التاريخ العماني، وفهم التحولات التي صاغت وجه الخليج العربي اليوم.
بين دفتي هذه الرواية، ستجد "هبوب الريح" التي لا تحمل معها الأتربة فحسب، بل تحمل بذور التغيير، وصوت الأجداد، وحلم الأجيال القادمة في وطن يتسع للجميع.
