recent
أخبار ساخنة

استعادة الصلابة الأخلاقية في عصر السيولة والنسبية: نقد ما بعد الحداثة والعودة إلى الفطرة

 

استعادة الصلابة الأخلاقية في عصر السيولة والنسبية: نقد ما بعد الحداثة والعودة إلى الفطرة

مقدمة: أزمة الإنسان المعاصر وفقدان البوصلة

في ظل المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، يقف الإنسان المعاصر حائراً وسط ركام هائل من الأفكار والنظريات التي زعزعت استقراره النفسي والفكري. لم يعد الصراع اليوم مجرد صراع على الموارد، بل تحول إلى صراع وجودي يمس جوهر الإنسان وكينونته. لقد بشرت "الحداثة" قديماً بسيادة العقل والعلم التجريبي كمصدر وحيد للمعرفة، واعدةً البشرية بالرفاهية المطلقة، لكنها سرعان ما أفضت إلى حقبة "ما بعد الحداثة"، تلك الحقبة التي اتسمت بالضبابية، والعدمية، وسيادة "النسبية" التي نزعت القداسة عن كل شيء.

يتناول هذا المقال واحدة من أخطر الأزمات التي تواجه البشرية اليوم: أزمة السيولة الأخلاقية. كيف تحولت القيم من ثوابت مطلقة إلى وجهات نظر نسبية؟ وكيف يمكننا استعادة "الصلابة الأخلاقية" استناداً إلى الفطرة والدين، للخروج من تيه العدمية إلى رحابة اليقين؟

مقدمة: أزمة الإنسان المعاصر وفقدان البوصلة في ظل المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، يقف الإنسان المعاصر حائراً وسط ركام هائل من الأفكار والنظريات التي زعزعت استقراره النفسي والفكري. لم يعد الصراع اليوم مجرد صراع على الموارد، بل تحول إلى صراع وجودي يمس جوهر الإنسان وكينونته. لقد بشرت "الحداثة" قديماً بسيادة العقل والعلم التجريبي كمصدر وحيد للمعرفة، واعدةً البشرية بالرفاهية المطلقة، لكنها سرعان ما أفضت إلى حقبة "ما بعد الحداثة"، تلك الحقبة التي اتسمت بالضبابية، والعدمية، وسيادة "النسبية" التي نزعت القداسة عن كل شيء. يتناول هذا المقال واحدة من أخطر الأزمات التي تواجه البشرية اليوم: أزمة السيولة الأخلاقية. كيف تحولت القيم من ثوابت مطلقة إلى وجهات نظر نسبية؟ وكيف يمكننا استعادة "الصلابة الأخلاقية" استناداً إلى الفطرة والدين، للخروج من تيه العدمية إلى رحابة اليقين؟
استعادة الصلابة الأخلاقية في عصر السيولة والنسبية: نقد ما بعد الحداثة والعودة إلى الفطرة


استعادة الصلابة الأخلاقية في عصر السيولة والنسبية: نقد ما بعد الحداثة والعودة إلى الفطرة


1. جذور الأزمة من وثوقية الحداثة إلى عدمية ما بعد الحداثة

لفهم الواقع الأخلاقي الحالي، لا بد من العودة إلى الجذور الفكرية التي شكلته. بدأت القصة مع الحداثة الغربية التي تسيّدت المشهد عبر الثورة الصناعية، حيث وضعت "العقلانية" و"المادية" كبديلين عن التفسير الغيبي للكون. آمنت الحداثة بالسرديات الكبرى (Grand Narratives) والحقائق العلمية الصارمة.

ولكن، سرعان ما تعرض هذا النموذج للنقد من داخله، مما مهد لظهور "ما بعد الحداثة". يمثل كتاب جان فرنسوا ليوتار "الوضع ما بعد الحداثي" (1979) إعلانًا رسميًا عن موت السرديات الكبرى. في هذا العالم الجديد:

  • انهارت الثقة في الحقائق المطلقة والمنطق الصارم.
  • حلت "النسبية" كمعيار وحيد للحكم على الأشياء.
  • تم تفكيك الأنساق الكلية لصالح المعاني الذاتية والجزئية.

لعبت فلسفة فريدريك نيتشه دوراً محورياً في هذا التحول؛ فبشّر بموت الإله (مجازاً عن غياب المرجعية العليا) ليفسح المجال لـ "الإنسان السوبرمان". كانت نتيجة هذا الطرح عدميةً موحشة، حيث لا خير ولا شر، ولا حقيقة ولا وهم، بل "إرادة قوة" فقط. هذا التأسيس الفلسفي هو الأرضية التي نبتت فيها بذور النسبية الأخلاقية التي نعيشها اليوم.


2. النسبية الأخلاقية المفهوم، التناقض، والمآلات

تُعرف النسبية الأخلاقية بأنها النظرية التي تنفي وجود صواب أو خطأ مطلق في الأخلاق. وفقاً لهذا الطرح، فإن القيم تختلف باختلاف الثقافات والأزمنة، وما يراه مجتمع ما "رذيلة" قد يراه آخر "فضيلة"، وبالتالي لا يحق لأحد أن يفرض معاييره على الآخرين.

التناقض الداخلي للنسبية

رغم جاذبية هذا الطرح الذي يبدو في ظاهره داعماً للحرية والتسامح، إلا أنه يحمل في طياته تناقضاً مدمراً ينسف المنظومة الأخلاقية برمتها. إن غياب المعيارية الموضوعية يجعل من المستحيل تعريف "العدل" أو "الظلم".

لنأخذ الحركات النسوية (Feminism) الحديثة كمثال صارخ على هذا التناقض، كما يطرح النص:

  • عندما تنتقد النسوية ممارسات قمع المرأة في مجتمعات معينة (مثل حكومة طالبان)، فإنها تصدر حكماً أخلاقياً "مطلقاً" بالخطأ.
  • لكن وفقاً للنسبية الأخلاقية، يجب عليهن القول بأن هذه "مجرد ثقافة مغايرة" ولا يحق لنا الحكم عليها!
  • كذلك الحال في الجرائم الأخلاقية الكبرى (مثل استغلال الأطفال)؛ فالنسبية تجبر معتنقيها نظرياً على اعتبارها "رأياً شخصياً" أو تفضيلاً، بينما ترفض الفطرة البشرية ذلك وتجرمه.

هذا التناقض يكشف أن دعاة النسبية يمارسون "الصلابة الأخلاقية" انتقائياً عندما يتعلق الأمر بحقوقهم، وينكرونها عندما تتعارض مع أهوائهم.

العلاقة بين الإلحاد والسيولة الأخلاقية

تتجلى الأزمة بوضوح عند ربط النسبية بالإلحاد. فالإلحاد، بإنكاره للمصدر المتجاوز (الله)، يحصر الأخلاق في دائرة المنفعة المادية أو الاتفاق الاجتماعي المتغير. وكما عبر ريتشارد دوكنز بوضوح: "في هذا العالم لا يوجد شر ولا خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء". هذا الاعتراف يؤكد أن المآل الحتمي لإقصاء الدين هو "العدمية الأخلاقية"، حيث تفقد القيم معناها الحقيقي وتصبح مجرد أدوات للسيطرة أو التكيف.


3. نحو استعادة الصلابة الفطرة الأخلاقية كحقيقة وجودية

الخروج من مستنقع السيولة يتطلب العودة إلى الثوابت. أولى ركائز استعادة الصلابة الأخلاقية هي الإيمان بأن الأخلاق فطرية وليست مجرد نتاج اجتماعي.

1. الإلزام الفطري (الضمير)

الإنسان مفطور على التمييز بين الخير والشر. يشير القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾. هذا الإلهام يعني وجود "بوصلة داخلية" سابقة على التعليم والثقافة.

  • يسميها الفلاسفة "الحاسة الخلقية" أو "الضمير".
  • يؤكد جان جاك روسو أن الضمير هو "صوت الروح" الذي لا يخدع، مشيراً إلى أن شعوب الأرض رغم اختلاف عاداتها تتفق على تمجيد العدل وذم الظلم.

2. الأخلاق كحد فاصل للإنسانية

يذهب الفيلسوف طه عبد الرحمن إلى أن "الأخلاقية" هي الميزة الحصرية للإنسان، وليست العقلانية فقط. فالحيوانات قد تمتلك ذكاءً غريزياً لتحصيل رزقها، لكن الإنسان وحده هو الذي يسعى للصلاح ويدرك معنى القيم. لذا، فإن تجريد الإنسان من المطلق الأخلاقي هو انحدار به إلى مرتبة البهيمية.


4. الدين والمصدر المتجاوز لماذا يعجز العقل وحده؟

إذا كانت الفطرة هي "القابلية" للأخلاق، فإن الدين هو "المصدر والضمان". يجادل المفكر علي عزت بيجوفيتش بأن العقل البشري وحده عاجز عن تأسيس أخلاق ملزمة، وذلك لسببين:

  1. حدود العقل النفعي: العقل المادي يحسب الأمور بمنطق الربح والخسارة. لذا، لا يمكن للعقل تفسير "التضحية" (مثل شخص يلقي بنفسه في النار لإنقاذ طفل غريب). بمقاييس العقل المادي، هذا "غباء" أو انتحار، لكن بمقاييس الأخلاق والدين، هذه "بطولة". الدين وحده هو الذي يمنح المعنى للتضحية غير النفعية.
  2. استحالة الإلزام الذاتي: لا يمكن للإنسان أن يلتزم بقانون صنعه بنفسه وتخضع معاييره لأهوائه. لكي تكون الأخلاق حاكمة، يجب أن يكون مصدرها متجاوزاً للإنسان (Transcendental)، أي من عند الله.

إن محاولة فصل الأخلاق عن الدين تنتج إما "أخلاقاً نفعية" (براغماتية) تتغير بتغير المصالح، أو بقايا أخلاقية ورثها المجتمع من دين سابق وتلاشى أصلها، وهو ما يفسر وجود ملحدين على خلق؛ فهم يعيشون على "رصيد" القيم الدينية التي تشربتها مجتمعاتهم عبر التاريخ، وليس لأن الإلحاد ينتج أخلاقاً.


5. الفرق بين المبدأ المطلق والتطبيق النسبي

من المغالطات التي يقع فيها أنصار ما بعد الحداثة، الخلط بين "المبدأ" و"التطبيق".

  • المبدأ مطلق: قيمة "العدل" مثلاً، هي قيمة مطلقة يتفق كل البشر على حسنها وضرورتها. لا يوجد مجتمع يمجد "الظلم" لذاته.
  • التطبيق قد يكون نسبياً: قد يختلف البشر في "تحقيق مناط" العدل أو صورته في واقعة معينة، وهنا يأتي دور الوحي الإلهي ليفصل في هذا النزاع ويضبط التطبيقات، حتى لا تخضع للأهواء.

إن وجود اختلافات في التطبيق لا ينفي وجود الحقيقة المطلقة، بل يؤكد الحاجة إلى مرجعية عليا (الشريعة/الدين) لضبط هذه النسبية في التطبيق، والحفاظ على جوهر المبدأ الأخلاقي.


خاتمة استعادة الإنسانية المفقودة

إن المعركة اليوم ليست مجرد جدل فلسفي، بل هي معركة لاستعادة إنسانية الإنسان التي طمرتها ركام المادية والعدمية. لقد أثبتت التجربة البشرية فشل "النسبية الأخلاقية" في بناء مجتمع متماسك أو تحقيق طمأنينة الفرد.

لاستعادة الصلابة الأخلاقية، لا بد من:

  1. الاعتراف بقصور العقل البشري عن وضع معايير مطلقة.
  2. العودة إلى الفطرة السوية التي تميز تلقائياً بين الحق والباطل.
  3. التسليم بالمصدر الإلهي (الدين) كمرجعية عليا تمنح القيم ثباتها وقدسيتها، وتحميها من سيولة الأهواء البشرية.

في عالم يموج باللايقين، تبقى الأخلاق المستمدة من الوحي والفطرة هي الصخرة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يستند إليها ليحفظ كرامته ومعنى وجوده.



author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent