**"وكالة النجوم البيضاء": رحلة بين الواقعي والمتخيل في عوالم عمرو العادلي السينمائية**
عوالم عمرو العادلي السينمائية
في خضم المشهد الأدبي
العربي المعاصر، تبرز أعمال الكاتب المصري عمرو العادلي كصوتٍ متفرد يمزج بين
الواقعية الحادة والخيال الجامح، ليقدم للقارئ تجارب سردية عميقة ومثيرة للتفكير. روايته
الجديدة "وكالة النجوم البيضاء"، الصادرة حديثًا عن دار الشروق
بالقاهرة، ليست مجرد إضافة جديدة إلى قائمة أعماله الغنية، بل هي بمثابة نافذة يطل
منها العادلي على عوالم السينما، ليس فقط كموضوع رئيسي في السرد، بل كنسيجٍ يمتد
ليشمل بنية النص ولغته البصرية الآسرة.
| **"وكالة النجوم البيضاء": رحلة بين الواقعي والمتخيل في عوالم عمرو العادلي السينمائية** |
**السينما مهنة ولغة سردية**
يُمكن القول إن "وكالة
النجوم البيضاء" تتناول السينما على مستويين متوازيين ومتكاملين، مما يمنح
الرواية بُعدًا فلسفيًا وعميقًا. المستوى الأول يتعلق بالسينما كمهنة مباشرة
للبطل، الذي يعمل متخصصًا في عرض الأفلام. هذا الجانب يعكس الواقع اليومي لشخصية
تعيش وتتنفس في فلك الفن السابع، متأثرة بتفاصيله الدقيقة من عرض الأفلام وتشغيل
الأجهزة. هذا التناول العملي للسينما يرسخها كجزء لا يتجزأ من حياة البطل وهويته،
ويُشكل نقطة انطلاق لاستكشاف العلاقة بين الفرد والشاشات الفضية.
أما المستوى الثاني
وهو الأكثر أهمية وعمقًا، فيتجلى في طريقة الكتابة نفسها. لقد جاءت لغة عمرو العادلي في هذه الرواية ذات سمة بصرية طاغية، تعتمد بشكل كبير على "إيقاع المشهد في السرد". هذه التقنية ليست غريبة على العادلي، الذي يُعرف بأسلوبه المكثف والقائم على المشاهد القصيرة والمكثفة التي تُقدم صورًا حية ومتحركة في ذهن القارئ.
كل فقرة، بل كل جملة، تبدو وكأنها لقطة سينمائية مستقلة، تحمل تفاصيل
دقيقة وإيحاءات عميقة، مما يجعل تجربة القراءة أشبه بمشاهدة فيلم سينمائي يتكشف
ببطء أمام العين العقلية. هذا النمط السردي يُعزز من ارتباط الرواية بعالم
السينما، ليس فقط من حيث المحتوى، بل من حيث الشكل والأسلوب أيضًا.
**اختبار الحدود العقل، الجنون، الواقع، والخيال**
على مدار 149 صفحة من
القطع المتوسط، يأخذنا عمرو العادلي في رحلة استكشافية جريئة لاختبار الحدود
الفاصلة بين المفاهيم الإنسانية الأساسية: العقل والجنون، الذاكرة والنسيان،
الواقع والخيال. هذه الثنائيات المتعارضة هي جوهر التجربة الإنسانية، والعادلي
يتناولها بعمق فلسفي يُثير تساؤلات وجودية هامة.
يسأل الكاتب سؤالًا أبديًا ومحوريًا
"حين تفشل كل خرائط الواقع، هل يمكن لخريطة السينما أن
تقودنا إلى النجاة؟" هذا التساؤل يُعد مفتاح فهم الرسالة العميقة للرواية. ففي
عالم يتسم بالتعقيد والضبابية، حيث قد يفقد الإنسان بوصلة الواقع، هل يمكن للفن،
وتحديدًا السينما، أن يكون الملاذ الأخير؟ هل يمكن للأحلام والأوهام المستوحاة من
الشاشة الكبيرة أن تصبح دليلًا نحو الخلاص، أو أنها مجرد هروب مؤقت من مرارة
الواقع؟
**حلم البطل الضائع ممثل بين الواقع والخيال**
يتجسد هذا الصراع
الداخلي في شخصية البطل، الذي يحلم طوال الوقت بأن يصبح ممثلًا معروفًا، وأن يصدر
له فيلمه الخاص. يرى في نفسه موهبة فذة لا تقل عن عشرات النجوم الذين يملأون
الساحة الفنية صخبًا ودويًا. هذا الحلم، الذي يبدأ كشغف وطموح، يتحول بمرور الوقت
إلى عبء ثقيل عندما يفشل في تحقيقه على أرض الواقع. ومع كل إخفاق، يتسلل الحلم إلى
خياله، ليُصبح أكثر واقعية في ذهنه مما هو عليه في العالم الخارجي.
هذا التحول من الواقع إلى الخيال
ومن الحلم المشروع إلى الوهم المسيطر، هو ما يُبرز صراع البطل مع ذاته
ومع العالم المحيط به. هل يعيش البطل في واقع موازٍ صنعه لنفسه، حيث هو النجم الذي
يطمح أن يكون؟ أم أنه يغرق في بحر من الأوهام التي تبعده عن حقيقة وجوده؟ هذا التداخل
بين الواقع والمتخيل هو ما يُضفي على الرواية طابعًا نفسيًا عميقًا، ويجعل القارئ
يتساءل عن طبيعة الواقع نفسه وعن الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال.
**عمرو العادلي مسيرة أدبية حافلة**
عمرو العادلي ليس
غريبًا على المشهد الأدبي. فهو روائي وقاص مصري مرموق، يمتلك مسيرة أدبية حافلة
بالإنجازات. له سبع مجموعات قصصية، منها "حكاية يوسف إدريس" و"الهروب
خارج الرأس"، والتي نالت استحسان النقاد والقراء على حد سواء. كما صدر له تسع
روايات، تُعد كل واحدة منها رحلة فريدة في عوالم الأدب والنفس البشرية. من أبرز
رواياته "السيدة الزجاجية" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة نجيب
محفوظ في الأدب، و"رجال غسان كنفاني" و"مريم ونيرمين".
- تُظهر قائمة أعماله التنوع في اختياراته للمواضيع والأساليب، وقدرته على استكشاف أبعاد مختلفة من
- التجربة الإنسانية. نال العادلي عدة جوائز أدبية مرموقة، منها "جائزة الدولة التشجيعية في الآداب"
- وجائزة "ساويرس"، مما يؤكد مكانته كواحد من
أبرز الأصوات الأدبية في جيله.
**من أجواء الرواية حكاية عامل البوفيه وحلم المسرح**
تقدم الرواية مقتطفًا
يكشف عن عمق معاناة البطل وصراعه مع حلمه. نقرأ: "سرح كثيرًا وهو يحكي حكايته
حتى إن الزمن الفاصل بين جملة وأخرى يكفي لتروي حكاية صغيرة. في نبرته كآبة فنان
مظلوم، قال إنه يملك موهبة لا يقدرها أحد. حكى لي عندما كان يعمل في (بوفيه) مسرح
الحرية بشارع الشيخ ريحان، المسرح كامل العدد والمسرحية لعادل إمام."
هذا المقطع يُقدم لنا لمحة عن البطل في بداياته
كعامل بوفيه في مسرح يُعرض عليه عمل للفنان عادل إمام. هنا،
يتجلى التناقض الحاد بين طموح البطل بأن يكون نجمًا، وبين واقعه كعامل بسيط خلف
الكواليس. يحلم البطل كل ليلة بأن يصبح نجمًا، يتمنى أن يحدث ظرف طارئ لممثل من
الأدوار المساعدة أو حتى الثانوية، فيمرض أو يموت أو تخطفه عصابة، فلا يجدون
أمامهم غيره ليمثل الدور، ويكتشف المخرج موهبته. هذا الحلم الكلاسيكي للممثل
المغمور الذي يبرز فجأة هو حلم متكرر في عالم الفن، لكنه هنا يأخذ بعدًا مأساويًا.
- "حفظ جميع الأدوار بالكلمة والحركة والإيماءة، ولأن الرياح لا تعرف ما تشتهيه السفن فلم يمرض أي
- من الممثلين، لم يمت أحد أفراد الفرقة، ولم تخطفه عصابة. ويظل عامل بوفيه طيلة عشر سنوات
- فتُدفن كلمات المسرحية في جوفه حتى يُسدل الستار على العرض نهائيًا ويتجمد حلم التمثيل بداخله."
هذه الكلمات تحمل ثقل
خيبة الأمل ومرارة الواقع. عشر سنوات من الانتظار والترقب، وحلم التمثيل يظل
حبيسًا في جوف البطل. هذا التجميد للحلم ليس إلا بداية لتسلله إلى عوالم الخيال،
حيث يمكن للبطل أن يكون النجم الذي لم يسمح له الواقع أن يكونه.
"يتنقل مع الفرقة إلى مسرح آخر ومسرحية أخرى فيتجدد الأمل بداخله، يتمنى لعب الدور الذي حفظه خلال أسبوع منذ بدأ العرض، يرهقه الترحال بين المسارح من دون تحقيق أمنيته. لم يعد التنقل بين البوفيهات يرضي غروره الفني، فهو يرى نفسه أنضج من ممثلين كبار.
لعب
أدوارًا هامشية في مسرحيات شعبية عن عُمد وشيوخ غفر وفلاحين، كما قدّم عروضًا
جماهيرية بقصور الثقافة لكن إشباع الموهبة وحدها دون حظ هو شيء لا يمنح أجرًا،
فترك عروض فرق الهواة وخرج إلى الشارع ووجد مكانًا مناسبًا في محطات مترو الأنفاق
لتفريغ طاقته."
يُبرز هذا المقطع اليأس المتزايد للبطل وإدراكه بأن الموهبة وحدها لا تكفي بدون الحظ. تحوله من العمل في البوفيهات إلى لعب أدوار هامشية في مسرحيات شعبية، ثم إلى عروض بقصور الثقافة، يوضح سعيه المستمر لإشباع شغفه الفني، لكن دون جدوى حقيقية.
النهاية المأساوية لهذا
المسار هي خروجه إلى الشارع، حيث يجد في محطات مترو الأنفاق "مكانًا مناسبًا
لتفريغ طاقته". هذا التحول إلى الأداء في الأماكن العامة يُمثل ذروة صراع
البطل بين حلمه بالنجومية وواقعه القاسي، ويُثير تساؤلات حول معنى الفن الحقيقي
ومكانة الفنان في مجتمع لا يقدر موهبته.
**خاتمة دعوة للتأمل**
"وكالة النجوم
البيضاء" ليست مجرد رواية عن السينما أو عن فنان يحلم بالنجومية. إنها دعوة
للتأمل في العلاقة المعقدة بين الإنسان وواقعه، بين أحلامه وخيباته، وبين الحقيقة
والوهم. بأسلوبه البصري المميز ولغته السردية الغنية، يُقدم عمرو العادلي عملًا
أدبيًا يُثير الفكر ويُحرك الوجدان، ويُجبر القارئ على الغوص في أعماق ذاته
ليتساءل: ما هي خرائط النجاة الحقيقية في عالم يزداد تعقيدًا؟ وهل يمكن للأضواء
الخافتة لشاشة السينما أن تنير لنا دربًا نحو فهم أعمق للوجود؟
هذه الرواية تُعد إضافة
قيمة للمكتبة العربية، وتُرسخ مكانة عمرو العادلي كروائي لا يخشى مواجهة الأسئلة
الصعبة، وتقديم إجابات تظل مفتوحة للتأويل، تمامًا كما هي الحياة نفسها.