فرانسيس بيكون: مهندس التفكير الحديث وموقظ العقول النائمة
في غمرة النصف الثاني من القرن السادس عشر
بزغ نجم في سماء الفلسفة
الإنجليزية، إنه فرانسيس بيكون، الذي لم يكتفِ بكونه رجل قانون بارع ومستشاراً
ملكياً مرموقاً وعضواً فاعلاً في البرلمان وكاتباً ذا صيت، بل امتد تأثيره ليتغلغل
في أعماق الفكر البشري، واضعاً أسساً متينة للتفكير الحديث، ومزيلاً ركام قرون من
الجمود الفكري الموروث عن العصور الوسطى. لم يكن هم بيكون الأكبر مجرد نقد الأفكار
الخاطئة، بل كان رؤيته أبعد من ذلك بكثير؛ لقد سعى إلى تحرير العقول من قيودها،
وتجديد المنهج الذي نُفكر به ونُدرك من خلاله العالم.
![]() |
| فرانسيس بيكون: مهندس التفكير الحديث وموقظ العقول النائمة |
جذور التفكير المعوج تحديات فهم الواقع
أدرك بيكون بحدسه الفلسفي الثاقب أن الطريقة السائدة للتفكير في عصره كانت تُعيق تقدم البشرية وتُشوه رؤيتنا للعالم الواقعي. فإما أن يؤدي هذا التفكير إلى إهمال تام للواقع المادي، أو – إذا ما وجهنا اهتماماً محدوداً إليه – فإننا نراه من خلال عدسات مُشوهة، لا تعكس حقيقته.
لذا، فإن الأولوية القصوى في فلسفة بيكون
لم تكن في دحض الأفكار المغلوطة بحد ذاتها، بقدر ما كانت في تفكيك الآليات الذهنية
التي تُنتج هذه الأفكار. لقد كان هذا الجانب "السلبي" الظاهري في فلسفته
هو جوهر الإيجابية، فبدلاً من إضافة معرفة جديدة إلى صرح آيل للسقوط، اختار بيكون
أن يهدم القديم ليُمهد الطريق لبناء جديد وأكثر صلابة.
بطبيعة الحال، لا يتعمد أحد منا استنتاج معرفة خاطئة عن العالم. ولكن حتى
مع النوايا الحسنة، تواجهنا عقبات معرفية تمنعنا من صياغة أفكار صحيحة ودقيقة. هذه
المعوقات، التي تُعرف بـ "الأصنام الأربعة"، هي جوهر نظرية بيكون في
تصحيح التفكير، وهي كالتالي:
1. **أصنام القبيلة (Idols of the Tribe):** هذه الأصنام متجذرة في الطبيعة البشرية نفسها، وهي ميول ومعتقدات مشتركة
بين جميع أفراد الجنس البشري. فميلنا الطبيعي، على سبيل المثال، إلى رؤية الاتساق
والانسجام في ظواهر الطبيعة حتى وإن لم يكن موجوداً بشكل تام، أو تفسير الأحداث
بطريقة تتوافق مع مصالحنا ورغباتنا، يُعد من أبرز تجليات أصنام القبيلة. إنها
تشويهات معرفية تُمليها علينا طبيعتنا كبشر.
2. **أصنام الكهف (Idols of the Cave):** على النقيض من أصنام القبيلة العامة، تتعلق أصنام الكهف بالفرد وحده. فهي
تنبع من تربيته الخاصة، وظروفه المحيطة، وحالاته المزاجية، وسماته الشخصية الفريدة.
ما أراه أنا من زاوية نظري قد يختلف تماماً عما يراه جاري من نفس الحدث، لأن لكل
منا "كهفه" الخاص الذي يشوه رؤيته للواقع. هذه التشويهات هي بمثابة
انعكاسات باهتة لحقائق خارجية، تتشكل داخل الكهف الشخصي لكل فرد.
3. **أصنام السوق (Idols of the Marketplace):** تنشأ هذه الأصنام من استخدامنا للغة وتداول الكلمات في المجتمع
(السوق). فنحن غالباً ما نستخدم الألفاظ دون تدقيق في معانيها الدقيقة، أو نُبالغ
في تعميمها، أو نُسقط عليها دلالات خاطئة. إن الهدف الأساسي للغة في الحياة
اليومية هو تسهيل التواصل والتبادل التجاري، وليس بالضرورة عكس الحقائق بدقة
متناهية. هذا اللاتدقيق اللغوي يؤدي إلى سوء فهم وتباس في إدراك الأشياء، حيث لا
تكون الكلمات مطابقة للأشياء التي ترمز إليها.
4. **أصنام المسرح (Idols of the Theatre):** هذه الأصنام تُشير إلى ميلنا لتقدير الأقوال القديمة للحكماء
والفلاسفة وعلماء اللاهوت، واعتبارها حقائق مُطلقة لا تقبل الجدل. يرى بيكون أن
هذه الأقوال، على الرغم من قيمتها التاريخية، هي في جوهرها مجرد آراء أو منظومات
فكرية أُنشئت في سياقات معينة، أشبه بمسرحيات تُعرض أمامنا، ونحن نكتفي بالتصفيق
لها دون تمحيص أو نقد. إنها منظومات فكرية تُفرض علينا كحقائق، بينما هي في الواقع
نتاج خيال بشري أو استنتاجات لا تقوم على أساس تجريبي متين.
طريق اليقين المنهج العلمي الجديد
إدراك الإنسان لهذه الأوهام التي تسكن داخله هو الخطوة الأولى والضرورية
نحو التعامل مع الواقع بمنهجية علمية سليمة. هذا الوعي يفتح الباب أمام تكوين
معرفة صادقة ودقيقة عن الواقع، معرفة تُمكن الإنسان من زيادة قوته وتحكمه في
الطبيعة من حوله. لقد وضع بيكون "بوصلة" جديدة توجه الإنسان في إقامة
صرح العلم، مرتكزة على مبدأ أساسي: "لا ينبغي للعالم أن يسير حسبما يوجد في
الكتب، ولكن على الكتب أن تسير حسبما يحدث في العالم".
نقطة البدء في هذا المنهج هي الملاحظة الحسية الدقيقة والمنضبطة للظواهر الطبيعية. ولكن بيكون كان يعي أن هذه الخطوة وحدها لا تكفي. لقد ضرب مثالاً شهيراً لثلاثة أنماط من التعامل مع المعرفة:
* **النمل (الحسيون):**
يُمثل النمل الذين يكتفون بجمع الطعام وتخزينه دون معالجة أو ترتيب. هذا النمط
يُشبه الحسيين الذين يجمعون الانطباعات الحسية ويراكمونها دون تحليل أو ربط. إنهم
يكتفون بالظواهر دون محاولة فهم أسبابها أو قوانينها.
* **العنكبوت (العقليون):**
يُمثل العنكبوت الذي يبني بيته من داخله، من مادته الخاصة. هذا النمط يُشبه
العقليين الذين يستنتجون كل شيء من مبادئ موجودة سلفاً في عقولهم، دون الرجوع إلى
التجربة أو الواقع. إنهم يبنون أنظمة فكرية معقدة من محض التفكير الداخلي، لا تقيم
وزناً كبيراً للملاحظة التجريبية.
* **النحل (العلماء
الحقيقيون):** يُمثل النحل الذي يمتص رحيق الأزهار المختلفة ثم يعكف على معالجته
وتحويله إلى مركب جديد هو العسل. هذا النمط هو ما رآه بيكون النموذج الأمثل للعالم
الحقيقي. إنه يجمع بين التجربة (امتصاص رحيق الأزهار) والعقل (معالجة الرحيق وصنع
العسل) ليصل إلى النظرية العلمية التي تكشف لنا حقيقة العالم. هنا تكمن قوة المنهج
البيكوني، في الجمع المتوازن بين الاستقراء والملاحظة والتجربة، مع التحليل العقلي.
الشك طريق اليقين التجربة هي المفتاح
شدد بيكون على أن المنهج العلمي الحقيقي يستوجب علينا أن نترك جانباً "تفسير
الكتب" لنتجه إلى "تفسير الطبيعة". لقد رأى أن الله قد أودع في
قوانين الطبيعة أسراراً خفية، ولكنه ألقى على عاتق الإنسان مهمة الكشف عن هذه
الأسرار. للشك دور محوري في هذا المنهج، فـ "حين نبدأ باليقين، ننتهي إلى
الشك، لكن لو بدأنا بالشك، نصل إلى اليقين". إن الشك المنهجي هو نقطة
الانطلاق نحو بناء معرفة راسخة.
المعرفة الحقيقية، في نظر بيكون، هي العلم بالأسباب. وعقد الصلة بين السبب
والنتيجة يتم حصرًا عن طريق التجربة. فإذا ما سألنا أنفسنا، على سبيل المثال، "هل
تؤدي زيادة الحرارة إلى تمدد المعادن؟"، فلا سبيل إلى حسم هذا السؤال إلا عن
طريق التجربة المنظمة. اقترح بيكون طريقة منهجية لإجراء التجارب تعتمد على إعداد
ثلاث قوائم:
1. **قائمة الحضور (Table of Presence):** يتم فيها جمع الحالات التي يكون فيها السبب (زيادة الحرارة) والنتيجة (تمدد
المعادن) حاضرين معاً.
2. **قائمة الغياب (Table of Absence):** يتم فيها جمع الحالات التي يغيب فيها السبب (نقص الحرارة) وتغيب معها
النتيجة (عدم تمدد المعادن).
3. **قائمة الدرجات أو
المقارنة (Table of Degrees):**
تُعنى هذه القائمة بقياس الوزن النسبي أو التغير في
السبب وكيف يؤثر ذلك على النتيجة. أي البحث عن التناسب بين درجة السبب ودرجة
النتيجة.
- لقد كان فرانسيس بيكون نفسه يُجري الكثير من التجارب، ورغم أنه لم يترك وراءه اكتشافاً علمياً
- هائلاً بحد ذاته أو ابتكاراً حاسماً في تاريخ البشرية، إلا أن إسهامه الأكبر كان في تكريس سنواته
- الأخيرة لوضع أسس المنهج العلمي.
لقد وصل به الأمر إلى حد الموت متأثراً بتجاربه التي كان يُجريها حول دور الثلج في وقاية المواد العضوية من الفساد.
الإيمان والعلم عداء الخرافة
لم يكن بيكون معادياً للدين أو للإيمان. بل على العكس، فقد ظل عميق
الإيمان، ورأى أن "قليلاً من الفلسفة قد يؤدي إلى الإلحاد، ولكن الكثير منها
يقود إلى الإيمان". فالفلسفة السطحية قد تهز الإيمان، بينما التعمق فيها يقود
إلى رؤية أعمق وأكثر شمولية للوجود، تُعزز الإيمان بدلاً من تقويضه.
عدو بيكون الأكبر لم يكن الإلحاد، بل كان الخرافة. فقد اعتبر أن الإلحاد
قد يُشكل للفرد سبيلاً نحو الفلسفة والثقافة، مما يُنمي لديه الفضائل. أماالخرافة، فقد رآها "فساداً مطلقاً ومدمرة تقضي على الإيمان وعلى الفضيلة معاً".
إنها تُعمي العقول، وتُبقيها أسيرة للوهم والخوف، وتمنعها من السعي نحو المعرفة
الحقيقية والتقدم.
فى الختام
لقد كان فرانسيس بيكون، بحق، مُوقظاً للعقول. لقد قدم لنا منهجاً قوياً لا
يزال يشكل ركيزة أساسية للعلم الحديث، منهجاً يدعونا إلى التفكير النقدي، والتحقق
التجريبي، والتخلي عن الأوهام، والسعي الدائم نحو فهم أعمق وأكثر صدقاً للعالم من
حولنا.
