recent
أخبار ساخنة

الليل: عالم موازٍ من الأفكار المدهشة وتأثيراته العميقة عبر الثقافات

الصفحة الرئيسية

 

 الليل: عالم موازٍ من الأفكار المدهشة وتأثيراته العميقة عبر الثقافات

 

**مقدمة:**

لطالما كان الليل، بوشاحه الأسود المرصع بالنجوم، مصدراً للإلهام والتأمل والخوف في آنٍ واحد. إنه ليس مجرد غياب للضوء، بل عالم موازٍ يفتح آفاقاً واسعة من الأفكار والتجارب التي تتجاوز حدود إدراكنا النهاري. صدر عن دار "العربي" بالقاهرة كتاب "الليل... عالم موازٍ" للباحث الألماني بيرند برونر، ترجمة محمد رمضان، ليغوص بنا في هذا العالم الساحر بأسلوب أدبي فلسفي، مستعرضاً علاقته المعقدة بالبشر والحيوان والنبات عبر التاريخ والثقافات المتنوعة.

لطالما كان الليل، بوشاحه الأسود المرصع بالنجوم، مصدراً للإلهام والتأمل والخوف في آنٍ واحد. إنه ليس مجرد غياب للضوء، بل عالم موازٍ يفتح آفاقاً واسعة من الأفكار والتجارب التي تتجاوز حدود إدراكنا النهاري. صدر عن دار "العربي" بالقاهرة كتاب "الليل... عالم موازٍ" للباحث الألماني بيرند برونر، ترجمة محمد رمضان، ليغوص بنا في هذا العالم الساحر بأسلوب أدبي فلسفي، مستعرضاً علاقته المعقدة بالبشر والحيوان والنبات عبر التاريخ والثقافات المتنوعة.
 الليل: عالم موازٍ من الأفكار المدهشة وتأثيراته العميقة عبر الثقافات

 الليل: عالم موازٍ من الأفكار المدهشة وتأثيراته العميقة عبر الثقافات


 في هذه المقالة، سنستكشف بعضاً من أعمق الأفكار التي يقدمها برونر حول الليل، مبرزين كيف يشكل هذا الجزء من اليوم هويتنا، سلوكياتنا، وتصوراتنا للعالم.

الليل وتجربة الحواس المتغيرة  صمت أم سمفونية؟

يُعد الليل تحولاً جذرياً في كيفية تفاعلنا مع بيئتنا. بينما يهيمن البصر على تجربتنا الحسية خلال النهار، فإن الليل يمنح الأذن والسمع مكانة محورية. تصبح الأصوات، التي قد تبدو هامشية في وضح النهار، مرشدنا الأساسي في الظلام. يلاحظ برونر كيف أن هذه الأصواتيمكن أن تكون مصدراً للخوف أو الأمان، فصرير جذع شجرة، نباح كلب بعيد، أو حتى إغلاق باب غير متوقع، كلها تحمل دلالات مختلفة تتشكل حسب تصورنا ومحيطنا.

 

في ظل غياب الضوء الكافي، تتقلص قدرة العينين على الرؤية، ما يدفعنا للاعتماد بشكل أكبر على حواس أخرى. يصبح السمع هو الملاذ الرئيسي، حيث نوجه أنفسنا ونفسر ما حولنا من خلال إشارات صوتية دقيقة. الصمت المطبق، الذي قد يثير القلق لدى البعض، يدفعهم للبحث عن أصوات مألوفة تبعث على الطمأنينة: حفيف مروحة السقف، طنين الثلاجة، أو حتى ضجيج مكيف الهواء في فندق بعيد. هذا البحث عن "ضوضاء الخلفية" يؤكد حاجتنا الفطرية للإحساس بالحياة والوجود حتى في أحلك الساعات.

 

الطوارق فن التأقلم مع الليل والانصهار مع الطبيعة

يقدم برونر مثالاً رائعاً على التأقلم البشري مع الليل من خلال شعب الطوارق، البدو الرحل في الصحراء الأفريقية الكبرى. بينما يحلم الكثيرون بقضاء ليلة تحت سماء مفتوحة مرصعة بالنجوم في ليلة صيفية دافئة، إلا أن الواقع غالبًا ما يكون مختلفاً؛ فغرائز البقاء تنشط لدى غير المعتادين، ما يمنعهم من النوم العميق. لكن الطوارق، الذين ينامون على الحصير في العراء، قد دربوا حواسهم السمعية ببراعة على التفاعل مع أصوات الليل.

  •  إن إيقاع نومهم لا يعتمد على التناوب بين الضوء والظلام فحسب، بل يتأثر بشكل كبير بحركات
  •  حيواناتهم، ما يعكس علاقة عميقة ومتناغمة مع بيئتهم الطبيعية. هذه القدرة على الانصهار مع الليل
  •  تكشف عن مرونة استثنائية للبشر في التكيف مع الظروف البيئية القاسية.

 

البوم بين نذير الشؤم ورمز الحكمة

من بين المخلوقات الليلية الطائرة، يحظى البوم بشهرة واسعة. عيونه الواسعة، أذنيه المرتفعتين، وملامح وجهه التي تشبه البشر جزئياً، كلها ساهمت في نسج الكثير من الأساطير حوله. يصدر البوم أصواتاً تتراوح في نطاق واسع بشكل مدهش – من الصراخ والنحيب والأنين إلى الضحك والصفير والشخير – والتي يمكن أن تذكرنا، بقليل من الخيال، بالتعبيرات البشرية.

 

  1. تختلف دلالات البوم عبر الثقافات. ففي روما القديمة، كان يُعتقد أن صوت البومة نذير بالموت. بينما
  2.  في اليونان القديمة، ارتبطت البومة الصغيرة بالإلهة أثينا، إلهة الحكمة، ما جعلها رمزاً للحكمة
  3.  والمعرفة. يعكس هذا التناقض كيف يمكن لنفس المخلوق أن يحمل معاني مختلفة تماماً بناءً على
  4.  السياق الثقافي.

 

يُثني عالم الطبيعة والفيلسوف هنري ديفيد ثورو على البوم بحماس شديد، معتبراً أن أصواتها "مثالية لتضاريس المستنقعات وغابات الشفق، وإشارة إلى جزء كبير غير متطور من الطبيعة لا يرغب البشر في الاعتراف به." يرى ثورو أن البوم "يجسد الأفكار التي لدينا جميعاً في داخلنا والتي لا نرغب في الاعتراف بها." هذا التصريح يضيف بعداً فلسفياً عميقاً للبوم، محولاً إياه إلى مرآة تعكس جوانب خفية من النفس البشرية والطبيعة.

 

نوم النباتات إيقاع الحياة الصامت في الظلام

لا يقتصر تأثير الليل على البشر والحيوانات فحسب، بل يمتد ليشمل عالم النباتات أيضاً. تتبع العديد من النباتات إيقاع النهار والليل، وتذهب إلى "النوم"، إذا جاز التعبير، حين يحل الظلام. يكون هذا السلوك واضحاً في بعض الحالات، فمثلاً، تتدلى أوراق الترمس التي تشبه المروحة بحزن في الظلام، كما تنغلق الأوراق الصغيرة لـ"الحميضة" وزهورها لتحمي حبوب اللقاح من ندى الصباح.

 

  • تناول المؤلف الروماني بلينوس الأكبر "نوم النباتات"، ولاحظ عالم الأحياء السويدي كارل فون ليني
  •  في القرن الثامن عشر أن الزهور تتفتح وتنغلق حتى عندما تكون في قبو مظلم، ما يشير إلى وجود
  •  ساعة بيولوجية داخلية تتحكم في هذه الإيقاعات بغض النظر عن المؤثرات الخارجية للضوء.

 

يصف فيلهلم بولشه، فيلسوف الطبيعة، نخلة "أليكة" (زهرة القمر) التي تنمو في المكسيك وجنوب غرب أمريكا، قائلاً: "هناك في ضوء القمر أو ضوء النجوم تتألق زهورها الفضية ببريق لامع يظهر من مسافة بعيدة لدرجة أن مسافر الليل قد يعتقد أن ضوءها الأبيض الحليبي يشع منها كأنها من ثريات الطبيعة المضاءة." هذه الصورة الشعرية تجسد الجمال الخفي الذي يكشف عنه الليل، وتبرز كيف يمكن للنباتات أن تتألق وتزدهر في الظلام، مقدمة مشهداً فريداً ومدهشاً.

 

الليل في الثقافات القديمة قياس الزمن ومناجاة الروح

لم يكن الليل مجرد فترة زمنية في الثقافات القديمة، بل كان له دور عميق في تنظيم الحياة الروحية والاجتماعية. في اللغة السنسكريتية، كانت عبارة "ليلة بعد ليلة" تُستخدم بدلاً من "يومياً"، ما يعكس منظوراً زمنياً فريداً يركز على دورة الظلام.

 

في بلاد ما بين النهرين القديمة

 كانت الصلوات الليلية شائعة، حيث يتأمل الناس النجوم والكواكب كجزء من التعبد، معتقدين أن السماء في الليل هي نافذة على عوالم عليا. وفي مصر القديمة، كانت بعض الاحتفالات والطقوس تقام في المساء والليل، ما يضفي قدسية خاصة على هذه الفترة الزمنية وارتباطها بالآلهة والأسرار. هذه الممارسات تؤكد على أن الليل كان يُنظر إليه كزمن للتفكير العميق، الاتصال الروحي، ومناجاة المجهول.

 

العمل الليلي وحراس الظلام بين العزلة والسمعة السيئة

يتناول برونر أيضاً مفهوم العمل الليلي، مشيراً إلى قول المعلم الروماني كوينتيليان في القرن الأول الميلادي بأن العمل الليلي هو "أفضل شكل من أشكال العزلة ما دمت تبدأه منتعشاً"، مع التأكيد على أهمية الصحة وعدم الإكراه. هذا يشير إلى أن الليل كان يعتبر وقتاً مناسباً للتركيز والتأمل والعمل الفكري الهادئ، بعيداً عن صخب النهار.

 

  1. يخاطب رجل الدولة الروماني كاسيودوروس الحراس الليليين بكلمات بليغة: "أنتم حفظة النائمين
  2.  وحماة البيوت وحراس الأبواب ومراقبون خفيون وقضاة صامتون." هذه الكلمات تسلط الضوء على
  3.  الدور الحيوي الذي كان يقوم به هؤلاء الحراس في حفظ الأمن والنظام العام في المدن القديمة.

 

ومع ذلك، لم تكن سمعة الحراس الليليين جيدة دائماً..

 فعلى غرار الجلادين وحفاري القبور والحلاقين وقطاع الطرق، كانوا يأتون غالباً من الطبقات الدنيا، وكانت أجورهم هزيلة، ما دفع الكثير منهم إلى قبول الرشاوى وغض الطرف عن الجرائم. تكررت إدانتهم بالفساد، ما أدى إلى تهميشهم كشخصيات في القصص البطولية أو الخيالية. لم يتغير هذا إلا في العصر الرومانسي، عندما بدأ الناس يهتمون بشكل متزايد بالجانب المظلم من النفس البشرية والشخصيات الهامشية في المجتمع، ليتسنى للحراس الليليين اكتساب مكانة أكثر تعقيداً في الأدب والفن.

 

الخاتمة

إن كتاب "الليل... عالم موازٍ" يقدم لنا رحلة استثنائية لاستكشاف هذه الفترة الغامضة من اليوم. من خلال منظور بيرند برونر، ندرك أن الليل ليس مجرد فترة سكون، بل هو نسيج حيوي يربط بين الكائنات الحية والظواهر الطبيعية والثقافات البشرية.

 إنه زمن للتأمل، للتعلم، للاكتشاف، ولإعادة تعريف علاقتنا مع العالم المحيط بنا. سواء كنا ننظر إليه كخطر، كفرصة للتفكير، أو كمسرح لجمال غير مرئي، يبقى الليل جزءاً لا يتجزأ من تجربتنا الإنسانية، ويستمر في إلهامنا وتحدينا بأفكاره المدهشة. إن فهمنا للليل هو فهم أعمق لأنفسنا وللكون الذي نعيش فيه.



author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent