### **توماس مان: تشريح روح العصر البرجوازي وضمير ألمانيا المعذب**
يُعدّ بول توماس مان (1875-1955)
واحدًا من عمالقة الأدب العالمي في القرن العشرين، وشخصية محورية في المشهد
الثقافي الألماني. لم يكن مجرد روائي بارع، بل كان طبيبًا نفسيًا يشرح روح عصره،
ومؤرخًا فلسفيًا يرصد انهيار القيم البرجوازية الأوروبية، وضميرًا أخلاقيًا لبلاده
في أحلك فتراتها التاريخية.
![]() |
### **توماس مان: تشريح روح العصر البرجوازي وضمير ألمانيا المعذب** |
- لقبّه أبناؤه بـ"الساحر" (Der Zauberer)، وهو لقب يلخص ببراعة قدرته الفذة على نسج عوالم
- روائية معقدة، مليئة بالرمزية والسخرية والتحليل النفسي العميق، والتي توّجت بمنحه جائزة نوبل في
- الأدب عام 1929، ليخلّد اسمه كأيقونة أدبية لا تزال أعمالها تثير النقاش وتلهم القراء والمبدعين حتى
- يومنا هذا.
#### **النشأة والتكوين جدلية الفن والحياة في لوبيك**
وُلد توماس مان في مدينة لوبيك الساحلية، وهي مدينة هانزية عريقة تمثل ذروة الثقافة البرجوازية الألمانية التقليدية. كانت نشأته محكومة بجدلية أساسية شكلت لاحقًا جوهر أعماله. فمن ناحية، كان والده، توماس يوهان هاينريش مان، تاجر غلال مرموقًا وعضوًا في مجلس الشيوخ، يجسد النظام والانضباط والواجب والتقاليد التجارية الصارمة.
- ومن ناحية أخرى، كانت والدته، جوليا دا سيلفا برونز، ذات الأصول البرازيلية-البرتغالية، تمثل
- العاطفة والفن والحسية والعالم الغريب المليء بالموسيقى والحياة. هذا التناقض بين الشمال الألماني
- الصارم والجنوب اللاتيني الحسي لم يكن مجرد تفصيل عائلي، بل كان الصراع المركزي الذي
- استكشفه مان طوال مسيرته: الصراع بين الفنان والمجتمع، بين الروح والجسد، بين الانضباط
- والفوضى.
لم يكن توماس مان تلميذًا نجيبًا؛ فقد كره المدرسة ونظامها الصارم، ووجد متعة أكبر في المسرح الصغير الذي أقامه مع شقيقه الأكبر هاينريش مان، الذي أصبح هو الآخر روائيًا شهيرًا. وفاة الأب المبكرة عام 1891 كانت بمثابة نقطة تحول كارثية ومصيرية.
فقد أُغلقت الشركة العائلية، وبيعت ممتلكات الأسرة، وانتقلت العائلة إلى ميونخ، مركز الفن والحداثة في ألمانيا آنذاك. هذا الانهيار لم يكن مجرد مأساة شخصية، بل كان المادة الخام التي صاغ منها ملحمته الأولى والأكثر شهرة: **"آل بودنبروك: انهيار عائلة" (1901)**.
#### **ولادة أسطورة "آل بودنبروك" وتشريح الانحطاط**
عندما نشر مان رواية "آل بودنبروك" وهو في السادسة والعشرين من عمره، لم يكن يقدم مجرد قصة عائلية، بل كان يقدم تشريحًا دقيقًا لظاهرة تاريخية: انحطاط البرجوازية الأوروبية على مدى أربعة أجيال. تتبع الرواية مصير عائلة تجارية من لوبيك، من الجد المؤسس القوي والعملي، إلى الأبناء والأحفاد الذين يزدادون رهافة وحساسية وفنية، ولكنهم في المقابل يفقدون الحيوية والقدرة على مواجهة متطلبات الحياة العملية.
- هذا المسار من القوة إلى الضعف، من التجارة إلى الفن، من الصحة إلى المرض، كان بمثابة إعلان
- مان الأدبي الأول عن أن الفن والحساسية المفرطة هما عرض من أعراض الانحطاط البيولوجي
- وفقدان الإرادة. هذه الرواية الملحمية، التي كانت السبب المباشر في منحه جائزة نوبل بعد قرابة ثلاثة
- عقود، رسخته كصوت أدبي فريد، قادر على تحويل سيرة عائلية إلى استعارة كبرى لمصير حضارة
- بأكملها.
#### **استكشاف النفس الفنان، الموت، والمرض**
بعد "آل بودنبروك"،
تعمق مان في استكشاف شخصية الفنان ككائن معزول ومريض، يقف على هامش الحياة
البرجوازية السليمة. في روايته القصيرة **"تونيو كروجر" (1903)**، يقدم
صورة مؤثرة عن فنان يشعر بالحنين إلى "شقراوات الحياة" العاديين، لكنه
يدرك أن فنه وعمقه يجعلان الاندماج معهم مستحيلًا.
- بلغ هذا الموضوع ذروته المأساوية في **"الموت في البندقية" (1911)**. هنا، يسافر الكاتب
- المرموق غوستاف فون آشنباخ، رمز الانضباط الفكري والأخلاقي، إلى البندقية ليقع أسير هوس
- مدمر بجمال صبي بولندي يدعى تادزيو. المدينة نفسها، الموبوءة بالكوليرا، تصبح استعارة للجمال
- الفاسد والانحلال الذي يجتاح روح آشنباخ، الذي يتخلى عن كل قيمه الأخلاقية والفكرية في سبيل
- شغف مميت. الرواية ليست مجرد قصة عن رغبة ممنوعة، بل هي تحليل عميق لكيفية انهيار النظام
- الأبولوني (العقل والانضباط) أمام الفوضى الديونيسية (العاطفة والجسد)، وهي ثنائية استعارها مان
- من فلسفة نيتشه.
توسعت هذه الأفكار لتصل
إلى أبعاد ملحمية في رواية **"الجبل السحري" (1924)**. تدور أحداث
الرواية في مصحة لعلاج السل في جبال الألب السويسرية، حيث يذهب الشاب هانز كاستورب
لزيارة قريبه لمدة ثلاثة أسابيع، فيبقى سبع سنوات. المصحة ليست مجرد مستشفى، بل هي
عالم معزول، ميكروكوزم لأوروبا المريضة قبل الحرب العالمية الأولى. في هذا العالم،
يصبح الزمن سائلًا، وتدور نقاشات فلسفية وسياسية لا تنتهي بين شخصيات تمثل تيارات
الفكر الأوروبي المتصارعة. المرض هنا ليس مجرد حالة جسدية، بل هو حالة وجودية تتيح
التأمل في أعمق قضايا الحياة والموت والزمن والحب.
#### **التحول السياسى من المحافظ إلى ضمير الأمة**
في بداية مسيرته، وخلال
الحرب العالمية الأولى، تبنى توماس مان موقفًا محافظًا وقوميًا، ودافع عن الحرب
باعتبارها ضرورة لحماية "الثقافة" الألمانية ضد "حضارة" الغرب
السطحية، وهو ما وضعه في خلاف حاد مع شقيقه هاينريش الذي كان ديمقراطيًا ومناهضًا
للحرب. لكن مع هزيمة ألمانيا وتأسيس جمهورية فايمار، بدأ تحول مان الفكري والسياسي
العميق. في خطابه الشهير عام 1922، أعلن ولاءه للجمهورية والديمقراطية، مدركًا أن
القيم الإنسانية التي يدافع عنها في أدبه لا يمكن أن تزدهر إلا في ظل نظام حر.
- مع صعود النازية، أصبح مان واحدًا من أشد منتقديها وأكثرهم تبصرًا. في روايته القصيرة **"ماريو
- والساحر" (1930)**، قدم استعارة عبقرية للفاشية، حيث يمثل الساحر المشعوذ شخصية الديكتاتور
- الذي يسلب إرادة الجمهور ويقودهم إلى كارثة. وعند وصول هتلر إلى السلطة عام 1933، كان مان
- وأسرته في رحلة خارج ألمانيا، فنصحوه بعدم العودة. بدأ بذلك فصل طويل ومؤلم من حياته في
- المنفى، أولًا في سويسرا ثم في الولايات المتحدة. وفي عام 1936، سحبت منه الحكومة النازية
- جنسيته الألمانية، وهي ضربة قاسية لكاتب
كانت هويته الألمانية جزءًا لا يتجزأ من فنه.
من منفاه الأمريكي، لم
يصمت مان. عبر سلسلة من الخطابات الإذاعية التي كانت تبثها إذاعة BBC تحت عنوان "أيها المستمعون
الألمان!"، خاطب مواطنيه مباشرة، محاولًا فضح جرائم النظام النازي وحثهم على
المقاومة، ليصبح بذلك الصوت الأبرز لـ"ألمانيا الأخرى"، ألمانيا الإنسانية
والثقافة الرفيعة.
#### **سنوات المنفى والإرث الأخير**
في المنفى، أنجز مان
أعماله الأكثر ضخامة وطموحًا. في رباعيته **"يوسف وإخوته"**، أعاد صياغة
القصة التوراتية لتصبح ملحمة إنسانية عن تطور الوعي البشري ونشأة الفردية
والأخلاق، وكأنها محاولة لتقديم أسطورة مضادة للأساطير الدموية التي روج لها
النازيون.
- أما عمله الأخير العظيم، **"دكتور فاوستوس" (1947)**، فهو روايته الأكثر تعقيدًا وتشاؤمًا.
- يحكي قصة الملحن العبقري أدريان ليفركون الذي يعقد صفقة مع الشيطان للحصول على 24 عامًا
- من الإلهام الفني الفذ. مصير ليفركون، الذي ينتهي بالجنون والكارثة، هو استعارة مروعة لمصير
- ألمانيا نفسها، التي باعت روحها للشيطان النازي في سبيل القوة والمجد، وانتهى بها الأمر إلى دمار
- شامل.
#### **فى الختام**
عاد توماس مان إلى أوروبا بعد الحرب لكنه اختار الاستقرار في سويسرا، بعيدًا عن ألمانيا المقسمة التي شعر بالنفور من كل من شقيها الشرقي والغربي. توفي في زيورخ عام 1955، تاركًا وراءه إرثًا أدبيًا هائلًا، ترجم إلى أكثر من أربعين لغة. لم يكن مجرد كاتب، بل كان شخصية ثقافية متكاملة، مثقف برجوازي استطاع أن يتجاوز طبقته ليشخص أمراضها ويشهد على انهيارها.
سيبقى توماس مان "الساحر" الذي حول تاريخ عائلته إلى ملحمة
عالمية، وحول المرض إلى استعارة فلسفية، وحول مصير بلاده إلى مأساة فاوستية تحذر
البشرية جمعاء من مخاطر التخلي عن العقل والإنسانية في سبيل أوهام القوة المطلقة.