recent
أخبار ساخنة

### **«نبض المدينة»: حين تصبح العمارة ذاكرة أمة ودرعًا في وجه العولمة**

الصفحة الرئيسية

 

### **«نبض المدينة»: حين تصبح العمارة ذاكرة أمة ودرعًا في وجه العولمة**

 

في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيير وتتآكل فيه الهويات تحت وطأة العولمة الجارفة، تأتي بعض الكتابات كصرخة مدوّية ومنارة فكرية تعيد توجيه البوصلة نحو الذات والجذور. يندرج كتاب **"نبض المدينة"** للكاتب والباحث رهيف فياض ضمن هذه الفئة من الأعمال التأسيسية، فهو ليس مجرد دراسة في هندسة العمارة، بل هو سفرٌ معمّق في روح المدينة العربية، ورحلة نقدية لاستكشاف العلاقة الجدلية بين الحجر والبشر، بين الذاكرة والخرسانة، وبين الهوية الأصيلة ومحاولات طمسها.

في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيير وتتآكل فيه الهويات تحت وطأة العولمة الجارفة، تأتي بعض الكتابات كصرخة مدوّية ومنارة فكرية تعيد توجيه البوصلة نحو الذات والجذور. يندرج كتاب **"نبض المدينة"** للكاتب والباحث رهيف فياض ضمن هذه الفئة من الأعمال التأسيسية، فهو ليس مجرد دراسة في هندسة العمارة، بل هو سفرٌ معمّق في روح المدينة العربية، ورحلة نقدية لاستكشاف العلاقة الجدلية بين الحجر والبشر، بين الذاكرة والخرسانة، وبين الهوية الأصيلة ومحاولات طمسها.
### **«نبض المدينة»: حين تصبح العمارة ذاكرة أمة ودرعًا في وجه العولمة**


### **«نبض المدينة»: حين تصبح العمارة ذاكرة أمة ودرعًا في وجه العولمة**

  • ينطلق فياض في كتابه من فرضية مركزية مفادها أن العمارة ليست مجرد هياكل صامتة أو فنون
  •  جمالية، بل هي المرآة الأكثر صدقًا التي تعكس روح مجتمعاتها، وتحمل في طياتها نبض حياتها
  •  الاجتماعية، وتاريخها، وتطلعاتها، وحتى انكساراتها. 

من هذا المنطلق، يصبح المبنى والطريق والساحة العامة مفردات في لغةٍ كبرى تروي حكاية أمة. والكتاب، في جوهره، هو محاولة لقراءة هذه اللغة وفك شفراتها، والدفاع عنها في مواجهة التسليع الثقافي الذي يهدد بتحويل مدننا إلى مجرد نسخ باهتة ومشوّهة من نماذج عالمية لا تمتّ بصلة إلى بيئتنا أو تاريخنا.


 **بيروت أنقاض الذاكرة و"أمكنة فارغة لناس لن يأتوا"**

 

يتخذ الكاتب من مدينة بيروت، بجراحها العميقة وتحولاتها القاسية، مختبرًا حيًا لتحليلاته. فبيروت، التي كانت يومًا ملتقى الثقافات و"سويسرا الشرق"، تجسد بشكل مأساوي كيف يمكن للحرب، ثم لإعادة الإعمار الموجهة برأس المال، أن تقتل المدينة مرتين.

  •  يغوص فياض في تفاصيل الأثر المدمر للحرب الأهلية، التي لم تقتصر على تدمير الحجر، بل مزّقت
  •  النسيج السكاني، ورسمت خطوط تماس عمرانية عززت الشرخ الطائفي وحوّلت الأحياء المتجاورة
  • إلى جزر معزولة.

 

لكن النقد الأكثر حدة في الكتاب يتجه نحو مرحلة ما بعد الحرب. يرى فياض أن عملية إعادة الإعمار، التي قادتها المضاربات العقارية ورؤوس الأموال الطامحة للربح السريع، كانت بمثابة هجوم ثانٍ على هوية المدينة. تم تجاهل الموروث التاريخي والمكاني بشكل شبه كامل، وجرى محو ذاكرة وسط المدينة التجاري العريق تحت شعار الحداثة والتطوير. 

  1. تحولت بيروت، بحسب وصفه البليغ، إلى "مدينة بلا مركز أو قلب أو أرصفة". فُقدت الساحات العامة
  2. التي كانت تشكل رئة المدينة ومتنفسها الاجتماعي، واستُبدلت بأبراج زجاجية شاهقة ومجمعات تجارية
  3. مغلقة لا تشجع على التفاعل الإنساني، بل تعزز العزلة والاستهلاك.

 

إن عبارة فياض الخالدة بأن بيروت تحولت إلى **"أمكنة فارغة لناس لن يأتوا"** تلخص جوهر المأساة. لقد تم تصميم هذه الأمكنة الجديدة لطبقة اجتماعية معولمة أو لسياح عابرين، بينما تم إقصاء السكان الأصليين وأبناء الطبقة الوسطى الذين كانوا يشكلون نبض المدينة الحقيقي. لقد أصبحت مدينة غريبة عن أهلها، فضاءً مصقولًا لكنه بارد وبلا روح، شاهدًا على انتصار منطق رأس المال على منطق الإنسان.

 

**من بيروت إلى حلب الجرح الممتد في الجسد العربي**

 

لا يحصر رهيف فياض تحليله في بيروت، بل يوسع عدسته لتشمل مدنًا عربية أخرى، وعلى رأسها حلب. من خلال هذه المقارنة، يوضح أن مأساة بيروت لم تكن حالة معزولة، بل نموذجًا لما يمكن أن يحدث حين تغيب الرؤية الوطنية الجامعة ويتم التعامل مع التراث كعبء لا كثروة. فما حدث في بيروت من تمزيق للنسيج الاجتماعي وتقسيم عمراني، وما يتهدد حلب اليوم بعد سنوات من الدمار الوحشي، هو جزء من سيناريو أكبر يواجه المدينة العربية.

 

  • يفكك المؤلف آليات تخريب المدن، سواء عبر القصف المباشر في زمن الحرب، أو عبر "القصف
  •  الناعم" في زمن السلم المتمثل في المشاريع العقارية العملاقة التي لا تحترم المقياس الإنساني ولا
  •  الخصوصية المحلية. إنه يكشف كيف أن "الكولونيالية الجديدة" لا تأتي بالضرورة على ظهر دبابة
  •  بل قد تأتي في صورة مخططات عمرانية براقة وشعارات عولمية تعد بالتقدم، لكنها في الحقيقة
  •  تفرض هيمنة ثقافية واقتصادية، وتعمل على تسليع الهوية وتحويل التراث إلى مجرد ديكور
  •  فولكلوري للسياحة.

 

**الفولكلور سلاحًا شعبيًا لمواجهة العولمة**

 

في مواجهة هذا الواقع القاتم، لا يقف الكتاب عند حدود التشخيص والنقد، بل يقدم رؤية بديلة ومقترحًا للمقاومة. يرى فياض أن الحل يكمن في العودة إلى الجذور وإعادة اكتشاف الذات الحضارية. يدعو إلى إبداع معماري جديد لا يرفض الحداثة، ولكنه يطوّعها لتخدم الهوية المحلية.

  •  عمارة تنطلق من فهم عميق لأنماط الحياة الاجتماعية للشعوب، وتحترم البيئة الطبيعية والمناخ
  •  وتستلهم من مفردات التراث الغني للعمارة العربية، من الفناء الداخلي الذي يوفر الخصوصية
  •  والبرودة، إلى المشربية التي تضمن التهوية وتحجب الرؤية، والأزقة الضيقة التي توفر الظل وتشجع
  •  على المشي والتفاعل.

 

هنا، يبرز العنوان الفرعي لأحد فصول الكتاب كشعار للمرحلة: **"عندما يصبح الفولكلور سلاحًا شعبيًا لمواجهة العولمة"**. فالفولكلور هنا ليس مجرد أغانٍ ورقصات، بل هو المخزون الحضاري والثقافي للأمة، هو حكمة الأجداد المتوارثة في بناء بيوتهم وتخطيط مدنهم بما يتلاءم مع حياتهم. إن التمسك بهذا الإرث واستلهامه في الحاضر هو شكل من أشكال المقاومة الثقافية ضد محاولات المسح والتوحيد القسري التي تفرضها العولمة. 

إنها دعوة لصياغة جماليات خاصة بنا، جمال يجذب السياحة الحقيقية التي تبحث عن الأصالة لا عن النسخ المكررة، ويصون في الوقت ذاته ذاكرة الأجيال القادمة.

 

** وثيقة من أجل المستقبل**

 

في نهاية المطاف، يتجاوز كتاب "نبض المدينة" كونه مجرد عمل أكاديمي في النقد المعماري ليصبح وثيقة تاريخية، وشهادة حية على ما جرى ويجري لمدننا، وبيانًا سياسيًا وثقافيًا من أجل المستقبل. إنه دعوة عاجلة للمهندسين والمخططين وصناع القرار والمثقفين، بل ولكل مواطن عربي يرى مدينته تتغير أمامه ويفقد صلته بها يومًا بعد يوم.

 فى الختام

يدعونا رهيف فياض إلى أن ننظر إلى ما هو أبعد من واجهات المباني اللامعة، وأن نستمع إلى "نبض المدينة" الحقيقي، النبض الذي يسري في أزقتها العتيقة، وساحاتها الشعبية، وبيوتها التي تروي قصص ساكنيها.

 إنه يضعنا أمام خيار مصيري: إما أن نترك مدننا لتتحول إلى مجرد "أمكنة فارغة" وسلع عقارية في سوق عالمية لا ترحم، أو أن نناضل من أجل استعادة روحها، والحفاظ على نبضها حيًا، لتظل مدنًا لنا، تعبر عنا، وتحمل ذاكرتنا إلى المستقبل.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent