recent
أخبار ساخنة

### **"بيت القاضي": مرآة الذاكرة الشعبية وعدسة التكوين الفردي**

الصفحة الرئيسية

 

### **"بيت القاضي": مرآة الذاكرة الشعبية وعدسة التكوين الفردي**

 

في قلب القاهرة التاريخية، أو "المحروسة" كما يحلو للعشاق تسميتها، ينسج الكاتب محمود عادل طه في روايته "بيت القاضي" لوحة بانورامية شديدة الثراء والتفصيل، لا تكتفي بسرد حكاية، بل تغوص في أعماق الروح المصرية وتستدعي زمناً كانت فيه الحكايات الشفهية هي الدستور الذي ينظم الوجدان الجمعي.

في قلب القاهرة التاريخية، أو "المحروسة" كما يحلو للعشاق تسميتها، ينسج الكاتب محمود عادل طه في روايته "بيت القاضي" لوحة بانورامية شديدة الثراء والتفصيل، لا تكتفي بسرد حكاية، بل تغوص في أعماق الروح المصرية وتستدعي زمناً كانت فيه الحكايات الشفهية هي الدستور الذي ينظم الوجدان الجمعي.
### **"بيت القاضي": مرآة الذاكرة الشعبية وعدسة التكوين الفردي**


### **"بيت القاضي": مرآة الذاكرة الشعبية وعدسة التكوين الفردي**

 المقتطف الافتتاحي للرواية ليس مجرد تمهيد للأحداث، بل هو مفتاح الدخول إلى عالم الرواية بأكمله

 عالم تتشابك فيه رائحة البخور مع غبار الأزقة، وصوت الربابة مع همسات العرافات، ومصير فرد

 مع ذاكرة أمة.

**القاهرة كشخصية حية مسرح الوجود والتناقضات**

 

يقدم لنا طه القاهرة ليس كخلفية جغرافية، بل كشخصية محورية، نابضة بالحياة والتناقضات. اختيار "مولد الصالحية" كمسرح للأحداث هو اختيار عبقري بحد ذاته. فالموالد في الثقافة المصرية تمثل نقطة التقاء فريدة بين المقدس والدنيوي، بين الروحانية العميقة والاحتفالية الصاخبة. هي المساحة التي يذوب فيها الفاصل بين الطبقات الاجتماعية، وتتلاقى فيها أقدار البشر على اختلاف مشاربهم.

 

  • من خلال وصف "الساحة الغربية خارج أسوارها"، يرسم الكاتب حدوداً مكانية وزمانية واضحة. نحن
  •  في ليلة مقمرة، في الأمسية الثالثة للمولد، حيث يصل الصخب ذروته. هذا الضجيج ليس فوضوياً، بل
  •  هو سيمفونية متناغمة من الأصوات التي تشكل الهوية السمعية للمكان: "أهازيج الربابة"،
  •  "استحسانات السامعين"، "نداءاتهم"، "أصوات متداخلة"، "نساء الغجر"، "عرافات البدو"، "بائعو
  •  اللطائف".

 كل صوت من هذه الأصوات يمثل خيطاً في النسيج الاجتماعي الذي يصوره الكاتب بدقة. إنه يدرك أن هوية المدينة لا تكمن فقط في مبانيها، بل في الأصوات والرائحة والحركة التي تملأ فضاءها العام.

 

**الفلكلور كسلطة معرفية الربابة بديلاً عن التاريخ الرسمي**

 

في مركز هذه اللوحة، تبرز "حلقة الربابة" كنقطة جذب رئيسة. إنها ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل هي مؤسسة ثقافية متنقلة. الشاعر الشعبي أو "المنشد" الذي يروي "رحلة العارف بالله سيدي تقي الدين صالح" لا يقوم فقط بتسلية الحضور، بل يؤدي وظيفة المؤرخ والمعلم وحافظ الذاكرة. في مجتمع كانت فيه الأمية منتشرة، كانت السير الشعبية هي الوسيلة الأهم لنقل القيم والأخلاق والتاريخ والبطولات من جيل إلى آخر.

 

  1. يصف النص ببراعة كيف تتفاعل الجموع مع هذه السلطة المعرفية: "استحسانات السامعين وتعليقاتهم
  2.  على هامش سيرته". هذه المشاركة الفعالة تحول عملية الاستماع إلى حوار حي، يعيد إنتاج الحكاية
  3.  ويمنحها حياة جديدة مع كل رواية. إنها الديمقراطية الشعبية في أنقى صورها، حيث يصبح التراث
  4.  ملكية جماعية يتم تشكيلها وتداولها في الفضاء العام. 

وفي المقابل، يصور الكاتب "انفضاض الفتية والأحداث نحو مظاهر احتفال أخرى"، مما يخلق توتراً دقيقاً بين مركزية التراث وجاذبية الهامش المتمثل في الغجر والعرافات، وهو ما يعكس التنوع الثقافي الهائل الذي كان يميز تلك الحقبة.

 

**بطل على الحافة نظرة المراقب وبداية التكوين**

 

من بين كل هذا الصخب والزحام، يختار الكاتب أن يضع عدسته على شخصية تبدو الأكثر هشاشة والأقل أهمية: "شريد متسلل يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً". هذا الاختيار ليس عشوائياً، بل هو جوهر البناء الفني للرواية. هذا الفتى، الذي لا نعرف اسمه بعد، هو بوابتنا إلى هذا العالم. 

  • وضعيته كـ"شريد متسلل" تمنحه ميزة فريدة: القدرة على المراقبة دون أن تتم ملاحظته. إنه يقف على
  •  الحافة، "خلف الكتيب"، يسترق السمع لا إلى حكاية الربابة المركزية فحسب، بل إلى الحكايات
  •  الهامشية التي تدور "بجوار البئر القديمة"، حيث "يتندر" الناس بالطعام و"يروون" الحكايات.

 

  1. هنا تكمن عبقرية السرد. فالرواية تعدنا بأنها لن تقتصر على السيرة الشعبية الكبرى، بل ستغوص في
  2.  "حكايات الكبار ونجواهم ومزاحهم"؛ أي في التفاصيل الإنسانية الدقيقة التي تشكل الحياة اليومية.
  3.  الفتى، بعمره البالغ ثلاثة عشر عاماً، يقف على عتبة البلوغ، بين عالم الطفولة البريء وعالم الكبار
  4.  المعقد. فعل "استراق السمع" هو فعل رمزي بامتياز، فهو يمثل شغفه بالمعرفة، ورغبته في فك
  5.  شفرات عالم الكبار، ومحاولته "إقحام نفسه" في سردياتهم ليفهم مكانه في هذا العالم.

 

هذا الفتى ليس مجرد شخصية، بل هو تجسيد لعملية التكوين (Bildungsroman). رحلته التي تبدأ بهذا المشهد هي رحلة بحث عن الهوية، عن المعرفة، وعن الانتماء. من خلال عينيه وأذنيه، سنختبر نحن القراء هذا العالم، وسنتعلم معه كيف تتشكل الحكايات، وكيف يُصنع التاريخ الشخصي والجماعي.

 

** وعد بعالم روائي متكامل**

 

إن هذا المقتطف الافتتاحي من "بيت القاضي" هو أكثر من مجرد بداية موفقة؛ إنه وعد روائي صريح. وعد بأننا على وشك الدخول إلى عالم غني بالتفاصيل الحسية، عميق في استكشافه للذاكرة الشعبية، ودقيق في رسمه لسيكولوجية التكوين والبحث عن الذات.

فى الختام

 يستخدم محمود عادل طه اللغة كأزميل نحات، ينحت بها مشهداً حياً يعج بالحركة والصوت والإحساس، ويضع في قلبه شخصية "الفتى الشريد" كعدسة مكبرة نرى من خلالها جدلية العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين التاريخ الرسمي والحكاية الشعبية، وبين الحقيقة المتوارثة والحقيقة المُعاشة.

 "بيت القاضي" تبدو، من هذه البوابة، رواية تحتفي بالتراث لا كمادة متحفية جامدة، بل كقوة حية وفاعلة في تشكيل مصائر البشر ووجدان الشعوب.


author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent