### **"بين الفصول": رقصة فرجينيا وولف الأخيرة على حافة الهاوية**
تُعتبر رواية "بين الفصول" (Between
the Acts)، التي
نُشرت بعد وفاة فرجينيا وولف عام 1941، بمثابة وصيتها الأدبية ومرثاتها المؤثرة
لعصر بأكمله. إنها ليست مجرد رواية، بل هي قصيدة نثرية شاسعة، وتأمل فلسفي عميق،
وصرخة مكتومة في وجه التاريخ الذي كان ينهار.
![]() |
### **"بين الفصول": رقصة فرجينيا وولف الأخيرة على حافة الهاوية** |
- من خلال حبكة بسيطة تدور أحداثها في يوم صيفي واحد في الريف الإنجليزي عام 1939، عشية
- اندلاع الحرب العالمية الثانية، تنسج وولف نسيجاً معقداً من الأفكار حول الفن، والذاكرة، والتاريخ
- والطبيعة، والانقطاع المأساوي للتواصل الإنساني في العالم الحديث.
**المسرح يوم واحد، تاريخ كامل**
تدور أحداث الرواية في منزل "بوينتز هول" الريفي، حيث تجتمع عائلة أوليفر مع ضيوفها وسكان القرية لمشاهدة المسرحية التاريخية السنوية التي تنظمها الآنسة لا تروب. هذا الإطار البسيط، يوم واحد في مكان واحد، هو المسرح الذي تستعرض عليه وولف تاريخ إنجلترا بأكمله، بل وتاريخ الحضارة الإنسانية.
- عنوان الرواية "بين الفصول" يحمل دلالات متعددة؛ فهو لا يشير فقط إلى الفترات الفاصلة بين
- فصول المسرحية التي تُعرض في الحديقة، بل يمتد ليشمل الفترات الفاصلة بين المحادثات المتقطعة،
- واللحظات الصامتة بين الأفكار الداخلية للشخصيات، والأهم من ذلك، الفترة الفاصلة بين حقبتين
- تاريخيتين: إنجلترا القديمة التي تحتضر، والعالم الجديد الذي يوشك أن يولد من رحم الحرب
- والفوضى. إنها وقفة تأمل على حافة الهاوية، حيث الماضي والحاضر والمستقبل يتصادمون في
- لحظة واحدة
مشحونة بالتوتر.
**شخصيات متصدعة في عالم متشظٍ**
كما هي عادتها، لا تركز وولف على الأحداث بقدر
ما تركز على الحياة الداخلية لشخصياتها. كل شخصية في "بين الفصول" هي
عالم قائم بذاته، مليء بالتناقضات والرغبات المكبوتة والأفكار غير المعلنة.
* **إيزا
أوليفر:** زوجة الابن، هي الشاعرة الصامتة التي تدور في رأسها قصائد عن الحب
والخسارة بينما تؤدي واجباتها كزوجة وأم. تمثل إيزا الانقسام بين الذات الداخلية
المبدعة والذات الخارجية المقيدة بالأعراف الاجتماعية. هي روح حالمة محاصرة في
واقع خانق، وعلاقتها المتوترة بزوجها جایلز تجسد فشل التواصل الحميمي.
* **جايلز
أوليفر:** زوج إيزا، هو تجسيد للغضب الذكوري المكبوت والعجز. يشعر بالاشمئزاز من
سلمية الريف وهدوئه بينما يقرأ في الصحف عن اقتراب الحرب. غضبه ينفجر بشكل بشع
عندما يسحق بدم بارد أفعى وضفدعة، في مشهد رمزي عنيف يعكس وحشية العالم الخارجي
التي بدأت تتسلل إلى هذا الملاذ الريفي الهادئ.
* **بارثولوميو
أوليفر ولوسي سويذن:** يمثل الشقيقان وجهين متناقضين للنظرة إلى العالم. بارثولوميو،
العجوز الذي خدم في الهند، هو رجل العقل والمنطق والتاريخ الموثق. أما أخته لوسي،
فهي امرأة روحانية، تؤمن بوحدة الوجود وترى التاريخ ككيان حي ومستمر، حيث يمكن للديناصورات
أن تتعايش في خيالها مع الحاضر. هذا الصراع بين العقلانية والحدس هو أحد المحاور
الفكرية الأساسية في الرواية.
* **الآنسة
لا تروب:** مخرجة المسرحية، هي الشخصية المحورية التي تمثل الفنان المعذب في
المجتمع. هي شخصية غامضة، منبوذة، تكافح بشدة لخلق عمل فني قادر على توحيد جمهورها
المتفرق وإيصال "رؤيتها". فشلها الجزئي وشعورها بالإحباط بعد انتهاء
العرض، ثم عودتها للتخطيط لعمل جديد، يمثلان دورة الإبداع الأبدية: الإلهام،
الصراع، خيبة الأمل، ثم الإصرار على المحاولة مجدداً. يمكن رؤية الآنسة لا تروب
كمرآة لوولف نفسها، التي كانت تكافح لتوحيد شظايا الواقع في عمل فني متكامل.
**المسرحية داخل الرواية تاريخ كمهزلة**
المسرحية التي تقدمها الآنسة لا تروب هي قلب
الرواية النابض. إنها ليست استعراضاً بطولياً لتاريخ إنجلترا، بل هي عرض هزلي،
متقطع، ومثير للسخرية أحياناً. تمر المسرحية عبر العصور: العصر الإليزابيثي، عصر
التنوير، والعصر الفيكتوري، وكلها تُقدَّم من خلال أغانٍ ومشاهد يؤديها ممثلون
هواة من أهل القرية. هذا الأسلوب يهدف إلى نزع الهالة عن التاريخ الرسمي، ليظهره
كما هو في حقيقته: سلسلة من الأحداث الفوضوية التي يصنعها أناس عاديون.
- الذروة تأتي في الفصل الأخير من المسرحية، والذي يحمل عنوان "الزمن الحاضر – أنفسنا". هنا،
- وبدلاً من تقديم ممثلين على المسرح، تأمر الآنسة لا تروب الممثلين بحمل كل أنواع المرايا وشظايا
- الزجاج وتوجيهها نحو الجمهور.
فجأة، يرى الحاضرون أنفسهم، بملابسهم العادية وحيرتهم
وارتباكهم، كجزء من هذا التاريخ المستمر. إنها لحظة حداثية بامتياز، تكسر الجدار
الرابع وتجبر الجمهور (والقارئ) على مواجهة حقيقة أنهم ليسوا مجرد متفرجين على
التاريخ، بل هم صناعه. إنهم "الحاضر" الذي سيصبح ماضياً للأجيال القادمة.
الطبيعة نفسها تشارك في العرض، حيث تهب الرياح وتمر السحب، مذكرةً الجميع بأن
القصة الإنسانية ليست سوى فصل صغير في مسرحية الكون الأعظم.
**لغة التشظي وسيمفونية الطبيعة**
أسلوب وولف في "بين الفصول" يصل إلى
ذروة التجريب. تتخلى عن السرد التقليدي لصالح لغة مجزأة، تتكون من شذرات حوار،
ومونولوجات داخلية سريعة، وأبيات شعرية، وأصوات الطبيعة. المحادثات نادراً ما
تكتمل، والأفكار تقفز من شخصية إلى أخرى دون سابق إنذار. هذا التشظي الأسلوبي ليس
مجرد تقنية فنية، بل هو انعكاس دقيق لحالة العالم المتصدع والوعي الحديث المشتت.
- لكن وسط هذا التفكك، هناك خيط خفي من الوحدة. أصوات الطبيعة – خوار الأبقار، وزقزقة الطيور،
- وهمس الريح – تعمل كجوقة موسيقية تربط بين المشاهد والشخصيات، وتذكر بأن الحياة تستمر في
- دورتها الأزلية، غير مكترثة بالدراما الإنسانية. في النهاية، وعلى الرغم من كل الانقطاعات
- والصراعات، تجد الرواية خاتمتها في مشهد حميمي ومقلق بين إيزا وجايلز.
بعد رحيل الضيوف، يواجه
الزوجان بعضهما البعض في صمت الليل، لتبدأ معركتهما وحبهما من جديد. الجملة الأخيرة
في الرواية "ثم ارتفع الستار. وتكلما" تشير إلى أن المسرحية الحقيقية – مسرحية
الحياة والعلاقات الإنسانية – على وشك أن تبدأ، في دورة لا تنتهي من الصراع
والمحبة.
فى الختام
"بين الفصول" هي عمل أدبي كثيف وصعب،
لكنه يمثل تتويجاً لمسيرة وولف الإبداعية. إنها شهادتها الأخيرة على جمال العالم
الهش، وقدرة الفن على محاولة لملمة شظاياه، والحقيقة الحتمية بأننا جميعاً ممثلون
على خشبة مسرح التاريخ، نؤدي أدوارنا في تلك الفترة الفاصلة "بين الفصول".