recent
أخبار ساخنة

**نحو علم اجتماع تحاوري: مواجهة أمراض الحداثة المتأخرة والليبرالية الرمزية**

الصفحة الرئيسية

 

**نحو علم اجتماع تحاوري: مواجهة أمراض الحداثة المتأخرة والليبرالية الرمزية**

 

شهدت الساحة الفكريةالعربية مؤخرًا إضافة نوعية بإصدار الترجمة العربية لكتاب ساري حنفي "ضد الليبرالية الرمزية، دعوة إلى علم اجتماع تحاوري" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – بيروت، بترجمة متقنة لياسر الزيات (2025). يمثل هذا الكتاب محاولة جريئة ونقدية لتشريح "أيديولوجيا العصر" التي يسميها حنفي "الليبرالية الرمزية"، وهي تلك الليبرالية التي تتسم بمبادئ كلاسيكية ظاهريًا، ولكنها تتجلى في الممارسة السياسية بصورة غير ليبرالية على الإطلاق.

شهدت الساحة الفكرية العربية مؤخرًا إضافة نوعية بإصدار الترجمة العربية لكتاب ساري حنفي "ضد الليبرالية الرمزية، دعوة إلى علم اجتماع تحاوري" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – بيروت، بترجمة متقنة لياسر الزيات (2025). يمثل هذا الكتاب محاولة جريئة ونقدية لتشريح "أيديولوجيا العصر" التي يسميها حنفي "الليبرالية الرمزية"، وهي تلك الليبرالية التي تتسم بمبادئ كلاسيكية ظاهريًا، ولكنها تتجلى في الممارسة السياسية بصورة غير ليبرالية على الإطلاق.
**نحو علم اجتماع تحاوري: مواجهة أمراض الحداثة المتأخرة والليبرالية الرمزية**


**نحو علم اجتماع تحاوري: مواجهة أمراض الحداثة المتأخرة والليبرالية الرمزية**

**الليبرالية الرمزية تناقض المبادئ والممارسات**

 

يقف ساري حنفي، أستاذعلم الاجتماع البارز في الجامعة الأميركية في بيروت ومدير مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية ورئيس برنامج الدراسات الإسلامية فيها، في قلب هذا النقد الجذري. يشير مصطلح "الليبرالية الرمزية" عنده إلى أحد "أمراض الحداثة المتأخرة" أو "الحداثة الفائقة" بتعبير جيل ليبوفتسكي، أو حتى "ما بعد الحداثة". هذه الليبرالية تدّعي التمسك بالقيم الليبرالية، ولكنها تتصرف على عكسها تمامًا.

 

  • يوضح مايكل بوراووي، عالم الاجتماع البريطاني ورئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، في تمهيده
  •  الرصين للكتاب، أن أتباع هذه الليبرالية "يشهرون مبادئ لا يلتزمون بها"، ويسعون إلى فرض
  •  تصور واحد للخير والعدالة على حساب التعددية الثقافية والاجتماعية. هذا التناقض يتجلى بوضوح
  •  في دراسات الحالة التي يوردها الكتاب، والتي تمثل الجزء الأكبر والأكثر إثراءً.

 

**أمثلة من الواقع فضائح الليبرالية الرمزية**

 

تكشف "الليبرالية الرمزية" عن وجهها الحقيقي في مواقف متعددة:

 

*   **تناقض المواقف السياسية:** يدافع أنصارها عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، بينما يكتبون عن أهمية الاستعمار، متجاهلين بذلك التناقض الصارخ بين المبدأ والتطبيق.

*   **قمع الحرية الأكاديمية:** يتحدثون عن ضرورة الحرية الأكاديمية، لكنهم يرفضونها عندما يتعلق الأمر بتعبير زملاء لهم عن رأيهم المخالف، خاصةً في قضايا حساسة كالقضية الفلسطينية وشجب الإبادة الجماعية والمجاعة في غزة. هذا ما نشهده بوضوح في كبريات الجامعات ومراكز الأبحاث والصحف الأوروبية والأميركية.

*   **التشدق بالعلمانية وحقوق الإنسان:** يتبجحون بالعلمانية وحقوق الإنسان ومفهوم الخير العام، لكنهم يشجبون حرية المعتقد إذا عبر طالب عن إيمانه الإسلامي في المدارس الفرنسية.

*   **تجاهل العدل الاجتماعي والتنوع:** يتجاهلون المسائل المرتبطة بالعدل الاجتماعي والمساواة والجندرية والعنصرية والتعصب، التي بدأت تجد لها مكانًا في مجتمعات متعددة، بما فيها الجامعات والمعاهد ووسائل الإعلام والمجالس السياسية. هذه المؤسسات، التي يُفترض أن تكون حاضنة لجميع الآراء والنقاشات الفكرية وتطوير المعرفة النقدية بعيدًا عن الدغمائية، أصبحت في الواقع مكانًا مفضلًا لعدم تطابق المبادئ المعلنة مع الممارسة التي تتجاهل إمكان التوصل إلى مفهوم موحد للعدالة أو للخير، وتفرض مفهومًا مهيمنًا ومشوهًا ومنزوع الثقافة.

*   **تغذية الانقسامات وثقافة الإلغاء:** يرى حنفي أن هذا النمط منالليبرالية يغذي الانقسامات المجتمعية وثقافة الإلغاء، مما يؤدي إلى كمّ الأصوات المختلفة وخلق مناخ من الخوف. يتأمل في الكيفية التي يعيد فيها علماء الاجتماع إنتاج المظالم نفسها التي يسعون إلى مواجهتها، من خلال تبني مواقف متصلبة وتهميش وجهات النظر البديلة.

 

**بين المبدأ والممارسة فجوة قاتلة**

 

**نحو علم اجتماع تحاوري: مواجهة أمراض الحداثة المتأخرة والليبرالية الرمزية**

يطرح الكتاب تساؤلات جوهرية حول سبب هذه الفجوة والتناقض بين المبدأ والممارسة، أو ما يمكن وصفه بالالتزام الشعاراتي بقيم الديمقراطية والحرية والمساواة والأخوة، بينما يحكم المدعون الدفاع عن هذه القيم سيطرتهم على مواطنيهم أو زملائهم، منكرين عليهم حق التعبير عن فكرهم ومصالحهم. يوضح حنفي أن هذا التناقض قد فاقم من أمراض الحداثة المتأخرة، بحيث زاد الاستبداد والتدمير البيئي وتعمقت الهشاشة الاقتصادية في مناخ أصبح فيه النقاش العقلاني شبه مستحيل.

 

**إلهامات فكرية ودعوة إلى الليبرالية الحقيقية**

 

للتفكر في هذه المسألة، يستلهم حنفي أعمال فلاسفة كبار من أمثال الأميركي جون رولز، منظر الليبرالية الاجتماعية ومؤسس مفهوم "العدل كإنصاف"، والألماني يورغن هابرماس ونظريته في "الفعل التواصلي" التي تستبدل نموذج معرفة الأشياء بنموذج الوفاق بين الذوات القادرة على الكلام والعمل معًا، والفرنسي إميل دركهايم ونظريته في التضامن الاجتماعي وغيرهم من المفكرين في مجال الفلسفة الأخلاقية وعلم الاجتماع.

 

  1. يدعو حنفي إلى التزام ليبرالية حقيقية، منتقدًا كيف تضخم الليبرالية الرمزية من كونية الحقوق بينما
  2.  تضيق في الوقت نفسه مساحة الحوار. يقترح عوضًا عن هذا الموقف الأيديولوجي الجامد خلق مجال
  3.  عام تتفاعل فيه "مختلف الفئات الثقافية والسياسية من خلال دفع تصوراتها المختلفة في شأن مفاهيم
  4.  العدل والخير المشترك إلى طاولة الحوار" التي تفتح أفقًا لتبادل الآراء، إذ تتواجه التصورات المتعددة
  5.  عن "الخير المشترك" في محاورة حقيقية.

 

**الحوار في الواقع تحديات ومقترحات**

 

ولكن كيف يكون هذا الحوار؟ هذا ما سيكتشفه القارئ في هذا الكتاب الذي تتأصل أطروحته في الواقع المعيش الذي اختبره المؤلف في المجتمع العربي الذي ولد ونشأ فيه، والذي اتسم "بانكفاء الليبرالية الحقيقية وغياب النقاش العام وتهميش العلوم الاجتماعية بوصفها وريثة حقبة الاستعمار".

 

  • فضلاً عن ذلك، تستند دراساته ومشاريعه البحثية إلى دعوته المتكررة إلى علم اجتماع عالمي تحاوري
  •  مرتبط بالفلسفة الأخلاقية، ومتابعته لما يجري في العالم على مستوى ظاهرة الاستقطاب المجتمعي
  •  المتزايدة ليس فقط في دول الشمال، بل في كل المجتمعات، وما تخلفه من انعكاسات مباشرة على
  •  الحريات الإنسانية. ويعني الاستقطاب المجتمعي انقسام المجتمع إلى فئات أو جماعات متعارضة
  •  بصورة حادة، بحيث يصبح كل طرف متمسكًا بموقفه أو هويته أو مصالحه إلى درجة تمنع إيجاد
  •  أرضية مشتركة للحوار أو التفاهم.

 

**التفاعل الديناميكي وأمراض الحداثة المتأخرة**

 

يتميز هذا الكتاب باستناده إلى مجموعة من المصادر والمراجع العلمية الدقيقة العربية والأجنبية، وبثبت المصطلحات المترجمة عن الإنجليزية. وقد قسم المؤلف كتابه إلى قسمين، مهد لهما بمقدمة استعرضت، إلى جانب المنهجية المتبعة في الدراسة التي تبنت مقاربة السوسيولوجي السلوفيني الأمبيريقية بوروت رونتشيفيتش القائمة على التفاعل الديناميكي بين الثقافة والسياسة والاقتصاد، دراسة "ثلاثة أمراض صارخة للحداثة المتأخرة":

 

1.  **السلطوية والشعبوية وصعود اليمين:** هذه الظواهر السياسية التي تقوض الحريات والديمقراطية.

2.  **اللامساواة والهشاشة المهنية والتهميش:** التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية التي تزداد عمقًا.

3.  **التخريب البيئي:** الذي تتفاقم بحسبه "وسط مناخ سياسي مسؤول عن هذه الأمراض".

 

ينازع هذا المناخ السياسي، من جهة، الفردانية النيوليبرالية واتساع دور المال والاقتصاد ومنطق السوق في قيادة الدول، ومن جهة أخرى، الرأسمالية العاطفية، أي "اختراق العلاقات الرأسمالية لمجال الأفراد الخاص" الذي تحدثت عنه عالمة الاجتماع إيڤا إيللوز.

 

في الفصول الثلاثة الأولى التي تؤلف متن القسم الأول من الكتاب، يتأمل حنفي في مفهوم الليبرالية الكلاسيكية القائم على الإيمان بالنزعة الفردية وحرية الفكر والمعتقد والتعبير والتسامح واحترام كرامة الإنسان وضمان حقه بالحياة والمساواة أمام القانون.

  1.  ثم يتناول الأقنعة المختلفة التي ارتدتها هذه الليبرالية في مسارها التاريخي حتى الوصول إلى
  2.  التشوهات التي أصابتها اليوم "نتيجة تقلص مفهوم العدل الاجتماعي وتضخيم مفهوم الحقوق الكونية
  3.  والسعي إلى فرض تصور وحيد لمفهوم الخير"، متناولًا مشروع الليبرالية التحاورية الذي يفنده في
  4.  الفصل الثالث من هذا القسم.

 

**القضايا الملحة التعصب، العلمانية، الجندر، والأسرة**

 

أما القسم الثاني الواقع في سبعة فصول، فيعالج أربعة مواضيع أساسية قوامها دراسة تناول الليبراليين الرمزيين لهذه المواضيع وطرقهم العوجاء في مقاربتها، وهي على التوالي:

 

*   **التعصب المجتمعي وعلاقته بالحريات الأكاديمية:** انطلاقًا من القضية الفلسطينية.

*   **العلمانية والدين في فرنسا وإيران.**

*   **مسألة الهوية الجندرية والمناهج الدراسية.**

*   **تقويض مرجعية الأسرة وتدخل الدولة في الحياة الأسرية وانتزاع الأطفال من ذويهم باسم مبادئ وأفكار.**

 

يشرح حنفي كيفية تقويم هذه القضايا بتمكن ودقة علمية واضحة متكئًا على الإحصاءات، عارضًا أمثلة من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والسويد توضح مدى انتشار هذه الظواهر داخل أنظمة تفاخر بالحريات المجتمعية والسياسية والأكاديمية، لكنها تعمل فعليًا على انقسام المجتمع.

 

**حرب غزة كاشفة للتحيزات الغربية**

 

يبلغ الكتاب ذروته عند تناوله الحرب على غزة، إذ يكشف حنفي كيف فضحت هذه الحرب حدود الحرية الأكاديمية في الغرب، وأظهرت تحيزًا صارخًا في الخطاب الإعلامي والسياسي والأكاديمي المؤيد لإسرائيل. يُرجع ذلك إلى أربعة عوامل رئيسة:

 

1.  **استغلال ذكرى المحرقة ومعاداة السامية.**

2.  **الصورة المزيفة لإسرائيل كدولة علمانية ديمقراطية.**

3.  **الإسلاموفوبيا وما تخلفه من تشويه لصورة المقاومة الفلسطينية.**

4.  **الإرث الاستعماري الغربي.**

 

**الحرية والحوار السبيل الوحيد**

 

إن الليبرالية الرمزية واستقطابها المجتمعي ليسا إذًا مجرد خلاف فكري، بل هما "مشكلة فائقة" ومعقدة "تقوض" المجتمعات وتعوق "نشوء مجال للخير المشترك والثقافة المشتركة".

 ولعل الحفاظ على الحرية الأكاديمية، على سبيل المثال، يتطلب إعادة الاعتبار للحوار، والانفتاح على تعددية المفاهيم الأخلاقية والسياسية، بدل الانجرار إلى ثقافة الإقصاء أو الخضوع لرقابة إدارية أو أيديولوجية أو الاصطفاف في مجموعات تضعف التضامن وتزيد من احتمالات النزاع أو تعطيل العمل المشترك ومعاداة النقاش بسبب اضمحلال الاستقلال الذاتي، فضلاً عما يسميه حنفي "عقيدة الإفراط في السلامة".

 

**علم اجتماع تحاوري قيم الحياة اليومية وأخلاق دنيا**

 

بالمقابل، يدافع ساري حنفي عن القيم السوسيولوجية المتصلة بالحياة اليومية في بعدها الثقافي، مشددًا على أن "الناس مشدودون بصورة كبيرة إلى الدين والأسرة والمجتمع، وكذلك إلى الحرية الفردية والمساواة".

  1.  غير أنه يعترف أن هذه القيم لا يمكن أن تتعايش من غير تسويات وتآزر الجميع والقبول بتصورات
  2.  متعددة للخير وللعدل الاجتماعي، وعدم استبعاد كل من لا يتفق مع الرؤية الاجتماعية الحوارية التي
  3.  يدافع عنها، انطلاقًا من "أخلاق دنيا" تلك التي تحدث عنها السوسيولوجي البلجيكي المقيم في
  4.  البرازيل فردريك فاندنبيرغ

 وتشكل قاعدة انطلاق أخلاقية "تحدد المبادئ الأساسية (الديمقراطية، التحاور، النقاش)، بما يسمح بصوغ القواعد الأكثر أهمية لمجتمع منظم بصورة معقولة [وليس "عقلانية"]، بما يجعل الحياة الاجتماعية ممكنة".

 

**قيمة مضافة للمكتبة العربية**

 

يمتاز كتاب ساري حنفي بكونه لا يكتفي بحدود التنظير وتشخيص أزمات العصر، وعلى رأسها الليبرالية الرمزية والاستقطاب المجتمعي والنقد السوسيولوجي، بل يتقدم خطوة أبعد عبر اقتراح آليات وأفكار عملية تسهم في مقاربة هذه الإشكالات المعقدة.

  •  ومن خلال معالجة رصينة، يقدم هذا العمل إضافة واضحة إلى حقل الدراسات السوسيولوجية
  •  الممهورة بتوقيع باحث وأكاديمي عربي، إذ يفتح أمام القارئ فضاء رحبًا للتفكير، ويعرفه على شبكة
  •  واسعة من المفكرين وعلماء الاجتماع الذين يشكلون مراجع أساسية في النقاش الراهن.

 فى الختام

تكمن قيمة كتاب "ضد الليبرالية الرمزية، دعوة إلى علم اجتماع تحاوري"، في عمقه وغناه المعرفي ورسمه مسارًا للمضي قدمًا في زمن أصبحت فيه الحاجة إلى التبادل الفكري أشد إلحاحًا من ذي قبل، مما يجعله مرجعًا ضروريًا للباحثين والمهتمين بالقضايا الاجتماعية المعاصرة.

 وتزداد أهميته بفضل ترجمته العربية التي أنجزها الصحافي واللغوي السوري ياسر الزيات، إذ نجح في الجمع بين الدقة العلمية والسبك الأدبي المتين، مانحًا نص ساري حنفي حياة جديدة في لغة الضاد من دون أن يفقد صدى نبرته الأصلية الإنجليزية الصادرة عن منشورات ليفربول الجامعية في المملكة المتحدة.

author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent