recent
أخبار ساخنة

### **فئران تبكي في الظلام: صرخة الوجود في مواجهة العبث والتحول**

الصفحة الرئيسية

 

### **فئران تبكي في الظلام: صرخة الوجود في مواجهة العبث والتحول**

 

في المشهد الأدبي العربي المعاصر، الذي بات يمور بتجارب جريئة تقتحم مناطق لم تكن مألوفة، تبرز رواية "فئران تبكي في الظلام" للكاتب محمد فؤاد المصري كعملٍ طموح يعد بتقديم وجبة سردية دسمة، تمزج بين الرعب النفسي، والغموض البوليسي، والفانتازيا السوداوية، لتصب في نهاية المطاف في نهر الأسئلة الوجودية الكبرى.

في المشهد الأدبي العربي المعاصر، الذي بات يمور بتجارب جريئة تقتحم مناطق لم تكن مألوفة، تبرز رواية "فئران تبكي في الظلام" للكاتب محمد فؤاد المصري كعملٍ طموح يعد بتقديم وجبة سردية دسمة، تمزج بين الرعب النفسي، والغموض البوليسي، والفانتازيا السوداوية، لتصب في نهاية المطاف في نهر الأسئلة الوجودية الكبرى.
### **فئران تبكي في الظلام: صرخة الوجود في مواجهة العبث والتحول**


### **فئران تبكي في الظلام: صرخة الوجود في مواجهة العبث والتحول**


  •  لا تكتفي الرواية بتقديم حبكة مشوقة، بل يبدو من ملخصها أنها تغوص عميقًا في استعارة مركزية
  •  بالغة القوة والغرابة: تحوّل البشر إلى فئران. هذه الفكرة، التي قد تبدو للوهلة الأولى مجرد خيال
  •  جامح، هي في الحقيقة المفتاح لفهم الأبعاد الفلسفية والنفسية التي يسعى الكاتب لاستكشافها.

**المدينة ككائن حيّ يموت مسرح الكابوس**

 

تنطلق الرواية من فرضية مرعبة: الاختفاء التدريجي لسكان مدينة بأكملها. هذا الخوف الأولي سرعان ما يتضاعف ليتحول إلى هلع خالص حين تُكشف الحقيقة المروعة؛ المفقودون لم يموتوا أو يرحلوا، بل خضعوا لعملية تحوّل "ميتامورفوزية" كابوسية، ليصبحوا "شيئًا آخر، شيئًا مغايرًا للذات الآدمية". 

  • هذا الشيء هو الفأر. هنا، يتجلى ذكاء الكاتب في اختيار المدينة كشخصية رئيسية صامتة. هي ليست
  •  مجرد خلفية للأحداث، بل "مدينة باهتة تعج بالظواهر الغريبة"، حيث "تنبثق ظلال مخيفة من
  •  الجدران وتتجسد المشاعر المظلمة في هيئة أطياف خارقة للطبيعة".

 

هذا الوصف يجعل من المدينة مسرحًا حيًا للكابوس، حيث لا يعود الفاصل بين المادي والنفسي موجودًا. الجدران لم تعد حجارة صماء، بل أصبحت أغشية شبه منفذة تتسرب منها المخاوف. والمشاعر المظلمة، مثل الذنب والكراهية واليأس، لم تعد حبيسة الصدور، بل تحررت لتتجول في الشوارع كأطياف مرئية.

 هذا التجسيد المادي للرعب الداخلي يخلق بيئة قمعية خانقة، تصبح فيها عملية التحول إلى فأر نتيجة منطقية وحتمية. فالمدينة نفسها تجرّد سكانها من إنسانيتهم، وتدفعهم نحو الظلام، وتصغّرهم حتى يصبحوا كائنات ضئيلة، خائفة، ومختبئة.

 

**رمزية الفأر سقوط الإنسان في هوة التفاهة**

 

لماذا الفئران تحديدًا؟ يكمن جزء كبير من عبقرية الفكرة في هذه الرمزية متعددة الطبقات. الفأر، عبر التاريخ والثقافات، يمثل الهامشية، الخوف، القذارة، والتفاهة. إنه كائن يعيش في الظل، في المجاري والشقوق، يقتات على الفتات، ويخشى النور والظهور. عندما يتحول الإنسان إلى فأر في هذه الرواية، فإنه لا يفقد هيئته البشرية فحسب، بل يفقد صوته، ومكانته، وأهميته. إنه السقوط المطلق من قمة الكائن العاقل إلى حضيض الكائن المُطارد والمُحتقَر.

 

  1. قد يكون هذا التحول استعارة قوية للمجتمعات الحديثة التي تسحق الفردانية وتدفع الناس نحو التنميط
  2.  والتشابه، أو رمزًا لفقدان الكرامة الإنسانية تحت وطأة أنظمة قمعية أو ظروف اقتصادية ساحقة. إن
  3.  عنوان الرواية "فئران تبكي في الظلام" يضيف بعدًا مأساويًا آخر.

 بكاء الفئران هو صرخة مكتومة لا يسمعها أحد، أنينٌ صادر عن كائنات فقدت القدرة على التعبير باللغة، ولم يتبقَ لها سوى صوت الألم البدائي. إنه بكاء من أجل الذات المفقودة، والإنسانية المسلوبة، والوجود الذي تم اختزاله إلى مجرد البقاء على قيد الحياة في الظلام.

 

**شخوص الرواية رحلات البحث المتشابكة**

 

في قلب هذا الجحيم الأرضي، تتلاقى مصائر أربع شخصيات رئيسية تمثل كل منها منظورًا مختلفًا للحقيقة والأزمة:

 

1.  **المحقق:** يمثل العقل والمنطق والنظام. هو رجل القانون الذي يحاول فرض تفسير عقلاني على ظاهرة تتحدى كل قوانين الفيزياء والمنطق. رحلته ستكون على الأغلب صراعًا مريرًا بين منهجيته العلمية وبين الحقيقة الخارقة التي تفرض نفسها عليه، وربما سيضطر في النهاية إلى التخلي عن أدواته التقليدية ليتمكن من رؤية الحقيقة.

 

2.  **الرجل المثقل بالندوب:** يمثل الضمير والماضي والخطيئة. سعيه "للخلاص" يشير إلى أن ما يحدث في المدينة قد لا يكون حدثًا عشوائيًا، بل ربما هو عقاب جماعي أو نتيجة لخطيئة كبرى شارك فيها. هذا الرجل يحمل مفتاحًا لفهم "لماذا" تحدث هذه الكارثة، ورحلته هي رحلة تطهير نفسي في مواجهة ذنوبه التي تجسدت في شكل لعنة تجتاح مدينته.

 

3.  **الرجل المجذوب (المجنون/البصير):** يمثل الحدس والرؤية الماورائية. هو الشخصية التي تتجاوز حدود الواقع المادي لترى ما لا يراه الآخرون. في الأدب، غالبًا ما يكون "المجنون" هو الأكثر حكمة، لأنه تحرر من قيود العقل الجمعي. هذا المجذوب ليس مجرد شاهد، بل هو على الأرجح المرشد أو النبي الذي يفهم لغة الأطياف وبكاء الفئران، وهو الجسر الذي يصل بين عالم البشر وعالم الظواهر الخارقة.

 

4.  **القاتل المتسلسل العائد للحياة:** يمثل الشر الخالص، المطلق، والمتجذر. عودته للحياة ليست مجرد إضافة عنصر إثارة، بل هي تأكيد على أن الشر في هذه المدينة ليس طارئًا، بل هو قوة أزلية تعود للظهور عندما تضعف دفاعات الخير. هو التجسيد المادي للعنف الذي كان يمارسه المجتمع على نفسه بشكل رمزي، وقد يكون هو المحفز أو النتيجة النهائية للتحلل الأخلاقي الذي أدى إلى كارثة التحول.

 

**ذروة العبث المحكمة والشاهد الفأر**

 

تصل الحبكة إلى ذروتها في فكرة عبثية وفلسفية مذهلة: "يبقى الأمل الوحيد للجميع متمثلا في شهادة منتظرة في قاعة المحكمة، ولكن الشاهد فأر يتوجب عليه الحديث". هذا المشهد المتخيل يضعنا وجهًا لوجه مع انهيار كل الأنظمة البشرية. المحكمة، التي هي رمز العدالة والنظام واللغة المنطوقة، تصبح مسرحًا للعبث المطلق. كيف يمكن تحقيق العدالة عندما يكون الشاهد الوحيد كائنًا لا يملك لغة بشرية؟

 

  • هذه الفكرة تطرح أسئلة جوهرية: ما هي الحقيقة؟ وهل يمكن الوصول إليها خارج إطار اللغة
  •  الإنسانية؟ كيف يمكن لمنظومة العدالة أن تتعامل مع كائن يحمل ذاكرة إنسان ولكنه حبيس جسد فأر؟
  •  إنها اللحظة التي يجب فيها على كل الشخصيات، وعلى القارئ أيضًا، أن يعيدوا تعريف مفاهيمهم عن
  •  التواصل، والشهادة، والعدالة. إنها لحظة كافكاوية بامتياز، حيث تصطدم البيروقراطية الإنسانية
  •  باللامعقول، وتكشف عن عجزها وهشاشتها.

 

في الختام

 تبدو رواية "فئران تبكي في الظلام" أكثر من مجرد رواية رعب أو تشويق. إنها مشروع أدبي مركب يستخدم أدوات الفانتازيا والغرائبية لتشريح واقع نفسي واجتماعي معقد. هي حكاية عن فقدان الهوية، وعن صرخة المقهورين الذين لا يجدون من يسمعهم، وعن البحث اليائس عن الخلاص والعدالة في عالم انقلبت فيه الموازين رأسًا على عقب.

 إنها دعوة للتفكير في إنسانيتنا الهشة، وفي تلك الخيوط الرفيعة التي تفصل بين كوننا بشرًا ناطقين، ومجرد كائنات تائهة تبكي في عتمة الوجود.


author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent